[ ص: 693 ] وحين ينتهي السياق من تقرير هذه القاعدة الكلية، في شرط الإيمان وحد الإسلام، وفي النظام الأساسي للأمة المسلمة، وفي منهج تشريعها وأصوله.. يلتفت إلى الذين ينحرفون عن هذه القاعدة; ثم يزعمون - بعد ذلك - أنهم مؤمنون! وهم ينقضون شرط الإيمان وحد الإسلام. إذ يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله.. إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ..
يلتفت إليهم ليعجب من أمرهم ويستنكر.. وليحذرهم - وأمثالهم - من إرادة الشيطان بهم الضلال. ويصف حالهم حين يدعون إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فيصدون. ويعتبر هذا الصدود نفاقا. كما اعتبر إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت خروجا من الإيمان - بل وعدم دخول فيه ابتداء - كما يصف معاذيرهم الواهية الكاذبة في اتباع هذه الخطة المستنكرة، حين تجر عليهم الوبال والنكال.. ومع هذا كله فهو يوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النصح لهم وموعظتهم.. ويختم المقطع كله ببيان ما أراده الله - سبحانه - من إرسال الرسل.. وهو أن يطاعوا.. ثم بنص صريح جازم في شرط الإيمان وحد الإسلام مرة أخرى..
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم، ثم جاءوك، يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم. فأعرض عنهم، وعظهم، وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك، فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ..
إن هذا التصوير لهذه المجموعة التي تصفها النصوص، يوحي بأن هذا كان في أوائل العهد بالهجرة. يوم كان للنفاق صولة; وكان لليهود - الذين يتبادلون التعاون مع المنافقين - قوة..
وهؤلاء - إلى الطاغوت - قد يكونون جماعة من المنافقين - كما صرح بوصفهم في الآية الثانية من هذه المجموعة - وقد يكونون جماعة من اليهود الذين كانوا يدعون - حين تجد لهم أقضية مع بعضهم البعض أو أهل الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير شريعة الله المدينة - إلى التحاكم إلى كتاب الله فيها.. التوراة أحيانا، وإلى حكم الرسول أحيانا - كما وقع في بعض الأقضية - فيرفضون ويتحاكمون إلى العرف الجاهلي الذي كان سائدا.. ولكننا نرجح الفرض الأول لقوله فيهم: يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك .. واليهود لم يكونوا يسلمون أو يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول. إنما كان المنافقون هم الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله (كما هو مقتضى العقيدة الإسلامية من الإيمان بالرسل كلهم) .
وهذا لم يكن يقع إلا في السنوات الأولى للهجرة قبل أن تخضد شوكة اليهود في بني قريظة وفي خيبر . وقبل أن يتضاءل شأن المنافقين بانتهاء شأن اليهود في المدينة !
على أية حال نحن نجد في هذه المجموعة من الآيات، تحديدا كاملا دقيقا حاسما لشرط الإيمان وحد الإسلام، ونجد شهادة من الله بعدم إيمان الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به كما نجد قسما من الله سبحانه - بذاته العلية - أنهم لا يدخلون في الإيمان; ولا يحسبون مؤمنين حتى يحكموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أقضيتهم. ثم يطيعوا حكمه، وينفذوا قضاءه. طاعة الرضى، وتنفيذ الارتياح القلبي; الذي هو التسليم، لا عجزا واضطرارا. ولكن طمأنينة وارتضاء.. [ ص: 694 ] ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ..
ألم تر إلى هذا العجب العاجب.. قوم.. يزعمون.. الإيمان. ثم يهدمون هذا الزعم في آن؟! قوم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . ثم لا يتحاكمون إلى ما أنزل إليك وما أنزل من قبلك؟ إنما يريدون أن يتحاكموا إلى شيء آخر، وإلى منهج آخر، وإلى حكم آخر.. يريدون أن يتحاكموا إلى.. الطاغوت.. الذي لا يستمد مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. ولا ضابط له ولا ميزان، مما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.. ومن ثم فهو.. طاغوت.. طاغوت بادعائه خاصية من خواص الألوهية. وطاغوت بأنه لا يقف عند ميزان مضبوط أيضا! وهم لا يفعلون هذا عن جهل، ولا عن ظن.. إنما هم يعلمون يقينا ويعرفون تماما، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه: وقد أمروا أن يكفروا به .. فليس في الأمر جهالة ولا ظن. بل هو العمد والقصد. ومن ثم لا يستقيم ذلك الزعم. زعم أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك! إنما هو الشيطان الذي يريد بهم الضلال الذي لا يرجى منه مآب..
ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ..
فهذه هي العلة الكامنة وراء إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت. وهذا هو الدافع الذي يدفعهم إلى الخروج من حد الإيمان وشرطه بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت! هذا هو الدافع يكشفه لهم. لعلهم يتنبهون فيرجعوا. ويكشفه للجماعة المسلمة، لتعرف من يحرك هؤلاء ويقف وراءهم كذلك.
ويمضي السياق في وصف حالهم إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله إلى الرسول وما أنزل من قبله.. ذلك الذي يزعمون أنهم آمنوا به:
وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا .
يا سبحان الله! إن النفاق يأبى إلا أن يكشف نفسه! ويأبى إلا أن يناقض بديهيات المنطق الفطري.. وإلا ما كان نفاقا ...
إن المقتضى الفطري البديهي للإيمان، أن يتحاكم الإنسان إلى ما آمن به، وإلى من آمن به. فإذا زعم أنه آمن بالله وما أنزل، وبالرسول وما أنزل إليه. ثم دعي إلى هذا الذي آمن به، ليتحاكم إلى أمره وشرعه ومنهجه; كانت التلبية الكاملة هي البديهية الفطرية. فأما حين يصد ويأبى فهو يخالف البديهية الفطرية. ويكشف عن النفاق. وينبئ عن كذب الزعم الذي زعمه من الإيمان!
وإلى هذه البديهية الفطرية يحاكم الله - سبحانه - أولئك الذين يزعمون الإيمان بالله ورسوله. ثم لا يتحاكمون إلى منهج الله ورسوله. بل يصدون عن ذلك المنهج حين يدعون إليه صدودا! ثم يعرض مظهرا من مظاهر النفاق في سلوكهم; حين يقعون في ورطة أو كارثة بسبب عدم تلبيتهم للدعوة إلى ما أنزل الله وإلى الرسول; أو بسبب ميلهم إلى التحاكم إلى الطاغوت. ومعاذيرهم عند ذلك. وهي معاذير النفاق:
فكيف إذا أصابتهم مصيبة - بما قدمت أيديهم - ثم جاءوك يحلفون بالله: إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ..
وهذه المصيبة قد تصيبهم بسبب انكشاف أمرهم في وسط الجماعة المسلمة - يومذاك - حيث يصبحون معرضين للنبذ والمقاطعة والازدراء في الوسط المسلم. فما يطيق المجتمع المسلم أن يرى من بينه ناسا يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أنزل، وبالرسول وما أنزل إليه; ثم يميلون إلى التحاكم لغير شريعة الله; أو يصدون حين يدعون إلى [ ص: 695 ] التحاكم إليها.. إنما يقبل مثل هذا في مجتمع لا إسلام له ولا إيمان. وكل ما له من الإيمان زعم كزعم هؤلاء; وكل ما له من الإسلام دعوى وأسماء! أو قد تصيبهم المصيبة من ظلم يقع بهم نتيجة التحاكم إلى غير نظام الله العادل; ويعودون بالخيبة والندامة من الاحتكام إلى الطاغوت; في قضية من قضاياهم. أو قد تصيبهم المصيبة ابتلاء من الله لهم. لعلهم يتفكرون ويهتدون..
وأيا ما كان سبب المصيبة; فالنص القرآني، يسأل مستنكرا: فكيف يكون الحال حينئذ! كيف يعودون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ...
إنها حال مخزية.. حين يعودون شاعرين بما فعلوا ... غير قادرين على مواجهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة دوافعهم. وفي الوقت ذاته يحلفون كاذبين: أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت - وقد يكون هنا هو عرف الجاهلية - إلا رغبة في الإحسان والتوفيق! وهي دائما دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته: أنهم يريدون اتقاء الإشكالات والمتاعب والمصاعب، التي تنشأ من الاحتكام إلى شريعة الله! ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة والاتجاهات المختلفة والعقائد المختلفة.. إنها حجة الذين يزعمون الإيمان - وهم غير مؤمنين - وحجة المنافقين الملتوين.. هي هي دائما وفي كل حين!
والله - سبحانه - يكشف عنهم هذا الرداء المستعار. ويخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه يعلم حقيقة ما تنطوي عليه جوانحهم. ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق، والنصح لهم بالكف عن هذا الالتواء:
أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم. فأعرض عنهم وعظهم، وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ..
أولئك الذين يخفون حقيقة نواياهم وبواعثهم; ويحتجون بهذه الحجج، ويعتذرون بهذه المعاذير. والله يعلم خبايا الضمائر ومكنونات الصدور.. ولكن السياسة التي كانت متبعة - في ذلك الوقت - مع المنافقين كانت هي الإغضاء عنهم، وأخذهم بالرفق، واطراد الموعظة والتعليم..
والتعبير العجيب: وقل لهم.. في أنفسهم.. قولا بليغا تعبير مصور.. كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس، ويستقر مباشرة في القلوب.
وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله.. بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت; ومن الصدود عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول.. فالتوبة بابها مفتوح، والعودة إلى الله لم يفت أوانها بعد; واستغفارهم الله من الذنب، واستغفار الرسول لهم، فيه القبول! ولكنه قبل هذا كله يقرر القاعدة الأساسية: وهي أن الله قد أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه - لا يخالف عن أمرهم. ولا ليكونوا مجرد وعاظ! ومجرد مرشدين! وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك، فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توابا رحيما ..
وهذه حقيقة لها وزنها.. إن الرسول ليس مجرد "واعظ" يلقي كلمته ويمضي. لتذهب في الهواء - بلا سلطان - كما يقول المخادعون عن طبيعة الدين وطبيعة الرسل أو كما يفهم الذين لا يفهمون مدلول "الدين" . [ ص: 696 ] إن الدين منهج حياة. منهج حياة واقعية. بتشكيلاتها وتنظيماتها، وأوضاعها، وقيمها، وأخلاقها وآدابها. وعباداتها وشعائرها كذلك.
وهذا كله يقضي أن يكون للرسالة سلطان. سلطان يحقق المنهج، وتخضع له النفوس خضوع طاعة وتنفيذ.. والله أرسل رسله ليطاعوا - بإذنه وفي حدود شرعه - في تحقيق منهج الدين. منهج الله الذي أراده لتصريف هذه الحياة. وما من رسول إلا أرسله الله، ليطاع، بإذن الله. فتكون طاعته طاعة لله.. ولم يرسل الرسل لمجرد التأثر الوجداني، والشعائر التعبدية.. فهذا وهم في فهم الدين; لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل. وهي إقامة منهج معين للحياة، في واقع الحياة.. وإلا فما أهون دنيا كل وظيفة الرسول فيها أن يقف واعظا. لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ويمضي. يستهتر بها المستهترون، ويبتذلها المبتذلون!!!
ومن هنا كان تاريخ الإسلام كما كان.. كان دعوة وبلاغا. ونظاما وحكما. وخلافة بعد ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقوم بقوة الشريعة والنظام، على تنفيذ الشريعة والنظام. لتحقيق الطاعة الدائمة للرسول. وتحقيق إرادة الله من إرسال الرسول. وليست هنالك صورة أخرى يقال لها: الإسلام. أو يقال لها: الدين. إلا أن تكون طاعة للرسول، محققة في وضع وفي تنظيم. ثم تختلف أشكال هذا الوضع ما تختلف; ويبقى أصلها الثابت. وحقيقتها التي لا توجد بغيرها.. استسلام لمنهج الله، وتحقيق لمنهج رسول الله. وتحاكم إلى شريعة الله. وطاعة للرسول فيما بلغ عن الله، وإفراد لله - سبحانه - بالألوهية (شهادة أن لا إله إلا الله) ومن ثم إفراده بالحاكمية التي تجعل التشريع ابتداء حقا لله، لا يشاركه فيه سواه. وعدم احتكام إلى الطاغوت في كثير ولا قليل. والرجوع إلى الله والرسول، فيما لم يرد فيه نص من القضايا المستجدة، والأحوال الطارئة; حين تختلف فيه العقول..
وأمام الذين "ظلموا أنفسهم" بميلهم عن هذا المنهج، الفرصة التي دعا الله المنافقين إليها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغبهم فيها..
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك، فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توابا رحيما ..
والله تواب في كل وقت على من يتوب. والله رحيم في كل وقت على من يؤوب. وهو - سبحانه - يصف نفسه بصفته. ويعد العائدين إليه، المستغفرين من الذنب، قبول التوبة وإفاضة الرحمة.. والذين يتناولهم هذا النص ابتداء، كان لديهم فرصة استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد انقضت فرصتها. وبقي باب الله مفتوحا لا يغلق. ووعده قائما لا ينقض. فمن أراد فليقدم. ومن عزم فليتقدم..