ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين! وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى.. الآخرة.. وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة. ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين، وإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة:
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله، فيقتل أو يغلب، فسوف نؤتيه أجرا عظيما ..
فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل. لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة. ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي!
إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض; ولا للاستيلاء على السكان.. لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات، والأسواق للمنتجات; أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات! إنه لا يقاتل لمجد شخص. ولا لمجد بيت. ولا لمجد طبقة. ولا لمجد دولة، ولا لمجد أمة، ولا لمجد جنس. إنما يقاتل في سبيل الله. لإعلاء كلمة الله في الأرض. ولتمكين منهجه من تصريف الحياة. ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج، وعدله المطلق "بين الناس" مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها.. في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام..
وحين وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى "شهيدا" ولا ينتظر أجره عند الله، بل عند صاحب الهدف الآخر الذي خرج له.. والذين يصفونه حينئذ بأنه "شهيد" يفترون على الله الكذب; ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس. افتراء على الله! فليقاتل في سبيل الله بهذا التحديد.. من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة. ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم في كلتا الحالتين: سواء من يقتل في سبيل الله ومن يغلب في سبيل الله أيضا: يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله، بقصد إعلاء كلمة الله، وتمكين منهجه في الحياة. ثم يقتل.. يكون شهيدا. وينال مقام الشهداء عند الله..
ومن يقاتل - في سبيل الله - فيقتل أو يغلب، فسوف نؤتيه أجرا عظيما .. [ ص: 708 ] بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس; وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم، في كلتا الحالتين. وأن يهون عليها ما تخشاه من القتل، وما ترجوه من الغنيمة كذلك! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله. كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا (ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع) فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض. وأين الدنيا من الآخرة؟ وأين غنيمة المال من فضل الله؟ وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه؟!
ثم يلتفت السياق إلى المسلمين. يلتفت من أسلوب الحكاية والتصوير عن أولئك المبطئين; إلى أسلوب الخطاب للجماعة المسلمة كلها. يلتفت إليها لاستجاشة مروءة النفوس، وحساسية القلوب; تجاه المستضعفين من الرجال والنساء والولدان; الذين كانوا يقاسون في مكة ما يقاسون على أيدي المشركين غير قادرين على الهجرة إلى دار الإسلام والفرار بدينهم وعقيدتهم; وهم يتطلعون إلى الخلاص، ويدعون الله أن يجعل لهم مخرجا من دار الظلم والعدوان.. يلتفت هذه الالتفاتة ليوحي إليهم بسمو المقصد، وشرف الغاية، ونبل الهدف، في هذا القتال، الذي يدعوهم أن ينفروا إليه، غير متثاقلين ولا مبطئين. وذلك في أسلوب تحضيضي; يستنكر البطء والقعود:
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله، والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان. الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا، واجعل لنا من لدنك نصيرا؟ ..
وكيف تقعدون عن واستنقاذ هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ هؤلاء الذين ترتسم صورهم في مشهد مثير لحمية المسلم، وكرامة المؤمن، ولعاطفة الرحمة الإنسانية على الإطلاق؟ هؤلاء الذين يعانون أشد المحنة والفتنة; لأنهم يعانون المحنة في عقيدتهم، والفتنة في دينهم. والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والنفس والعرض، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض، وحق المال والأرض! القتال في سبيل الله;
ومشهد المرأة الكسيرة والولد الضعيف، مشهد مؤثر مثير. لا يقل عنه مشهد الشيوخ الذين لا يملكون أن يدفعوا - وبخاصة حين يكون الدفع عن الدين والعقيدة - وهذا المشهد كله معروض في مجال الدعوة إلى الجهاد. وهو وحده يكفي. لذلك يستنكر القعود عن الاستجابة لهذه الصرخات.. وهو أسلوب عميق الوقع، بعيد الغور في مسارب الشعور والإحساس.
ولا بد من لفتة هنا إلى التصور الإسلامي للبلد والأرض والوطن: إن هذه القرية الظالم أهلها التي يعدها الإسلام - في موضعها ذاك - دار حرب، يجب أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ المسلمين المستضعفين منها، هي "مكة" وطن المهاجرين ، الذين يدعون هذه الدعوة الحارة إلى قتال المشركين فيها. ويدعو المسلمين المستضعفين هذه الدعوة الحادة للخروج منه!
إن كونها بلدهم لم يغير وضعها في نظر الإسلام حين لم تقم فيها شريعة الله ومنهجه; وحين فتن فيها المؤمنون عن دينهم، وعذبوا في عقيدتهم.. بل اعتبرت بالنسبة لهم هم أنفسهم "دار حرب" .. دار حرب، هم لا يدافعون عنها، وليس هذا فحسب بل هم يحاربونها لإنقاذ إخوتهم المسلمين منها.. إن راية المسلم التي يحامي عنها هي عقيدته. ووطنه الذي يجاهد من أجله هو البلد الذي تقام شريعة الله فيه; وأرضه التي يدفع عنها هي [ ص: 709 ] "دار الإسلام" التي تتخذ المنهج الإسلامي منهجا للحياة.. وكل تصور آخر للوطن هو تصور غير إسلامي، تنضح به الجاهليات، ولا يعرفه الإسلام.
ثم لمسة نفسية أخرى، لاستنهاض الهمم، واستجاشة العزائم، وإنارة الطريق، وتحديد القيم والغايات والأهداف، التي يعمل لها كل فريق:
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت. فقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفا ..
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق. وفي لحظة ترتسم الأهداف، وتتضح الخطوط. وينقسم الناس إلى فريقين اثنين; تحت رايتين متميزتين: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله .. والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ..
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته، وإقامة العدل "بين الناس" باسم الله. لا تحت أي عنوان آخر. اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله!
ويقف الذين آمنوا مستندين إلى ولاية الله وحمايته ورعايته. ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم، وشتى مناهجهم، وشتى شرائعهم، وشتى طرائقهم، وشتى قيمهم، وشتى موازينهم ... فكلهم أولياء الشيطان.
ويأمر الله الذين آمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان; ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان: فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفا .
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد. مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله، ليس لأنفسهم منها نصيب، ولا لذواتهم منها حظ. وليست لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء.. إنما هي لله وحده، ولمنهجه وشريعته. وأنهم يواجهون قوما أهل باطل; يقاتلون لتغليب الباطل على الحق. لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله; ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله; ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس..
كذلك يخوضون المعركة، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها. وأنهم يواجهون قوما، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف.. إن كيد الشيطان كان ضعيفا..
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين، وتتحدد نهايتها. قبل أن يدخلوها. وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب، ورأى بعينيه النصر; فهو واثق من الأجر العظيم.
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد [ ص: 710 ] في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى; والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة. وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال; فهي كثيرة مشهورة.. ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب، في أقصر فترة عرفت في التاريخ; فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة، على المعسكرات المعادية.. ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال; ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين فأمسوا مهزومين!
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته. فلم يكن الأمر هينا. ولم يكن مجرد كلمة تقال. ولكنه كان جهدا موصولا، لمعالجة شح النفس، وحرصها على الحياة - بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة.. وفي الدرس بقية من هذا العلاج، وذلك الجهد الموصول.
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين. قيل إن بعضهم من المهاجرين ، الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين. حيث لم يكن مأذونا لهم - بعد - في قتال، للحكمة التي يعلمها الله; والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد.. فلما كتب عليهم القتال، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية.. إذا هم - كما يصورهم القرآن - يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية! وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال! لولا أخرتنا إلى أجل قريب! ممن إذا أصابتهم الحسنة قالوا: هذه من عند الله. وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: هذه من عندك. وممن يقولون: طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيت طائفة منهم غير الذي تقول. وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ...
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء، في الأسلوب القرآني; الذي يصور حالة النفس، كما لو كانت مشهدا يرى ويحس! ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة، والأجل والقدر، والخير والشر، والنفع والضرر، والكسب والخسارة، والموازين والقيم; ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة:
ألم تر إلى الذين قيل لهم: كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت. ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. قل: كل من عند الله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله. وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولا، وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض [ ص: 711 ] عنهم، وتوكل على الله، وكفى بالله وكيلا أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.. ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ..
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس: وإن منكم لمن ليبطئن ... الآيات ... ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين; التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها.
وقد كدنا نرجح هذا الرأي; لأن ملامح النفاق واضحة، فيما تصفه هذه المجموعات كلها. وصدور هذه الأعمال وهذه الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم، أمر أقرب إلى طبيعتهم، وإلى سوابقهم كذلك. وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا..
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين: قيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. فلما كتب عليهم القتال ... الآيات... هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين، والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين، المندسين في الصف المسلم. وربما كانت كلها وصفا للمنافقين عامة; وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال.
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى; وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان; أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني; ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم..
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع، لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذونا لهم في القتال، فقيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ..
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ميلهم على أهل منى أي: قتلهم - لو أمرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورده عليهم: إننا لم نؤمر بقتال .. فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعة العقبة - في المنافقين، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات. ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى. فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف; رضي الله عنهم جميعا.
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجموعة واردة في بعض من المهاجرين ، الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال.. وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم، بل في المنافقين. لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الحسنة! أو قول الطاعة وتبييت غيرها.. وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف. لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام، ولا تدل على النفاق..
والحق.. أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موقف لا نملك الجزم فيه بشيء. والروايات الواردة [ ص: 712 ] عنها ليس فيها جزم كذلك بشيء.. حتى في آيات المجموعة الأولى. التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين كما ورد أنها في طائفة من المنافقين! ومن ثم نأخذ بالأحوط في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر التي وردت في الآيات السابقة. ومن سمة إسناد السيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الحسنة، ورد هذه وحدها إلى الله! ومن سمة تبييت غير الطاعة.. وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني، ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية!!! والله المعين.
ألم تر إلى الذين قيل لهم: كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.. فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! قل: متاع الدنيا قليل. والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة ...
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس; الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة ، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين. حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله. فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله; وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله; القهار الجبار، الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.. أو أشد خشية !! وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - ربنا لم كتبت علينا القتال؟ .. وهو سؤال غريب من مؤمن. وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين; ولوظيفة هذا الدين أيضا.. ويتبعون ذلك التساؤل، بأمنية حسيرة مسكينة! لولا أخرتنا إلى أجل قريب! وأمهلتنا بعض الوقت، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف!
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا، قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة.. بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف. لا عن شجاعة واحتمال وإصرار. كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال. قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة; فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل. دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار.. حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا. فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا.. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت; ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف. فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته.. والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا; وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك!
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه; ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة. فيندفع يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية [ ص: 713 ] والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب. فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ; ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص; لم يعد يرى للقتال مبررا; أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!
فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! .
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا. بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا. فالإيمان الذي لم ينضج بعد; والتصور الذي لم تتضح معالمه; ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم; وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله; ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض; ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه.. وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك; وينهى عن الجهاد!
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر; والاستماع فقط إلى أمر الله واعتباره هو العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدرا من قدر الله، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة.. لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير; ويعجب منه هذا التعجيب! وينفر منه هذا التنفير.
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين - في مكة - بالانتصار من الظلم; والرد على العدوان; ودفع الأذى بالقوة.. وكثيرون منهم كان يملك هذا; فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا; ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين.. مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة..
أما حكمة هذا، والأمر بالكف عن القتال، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصبر والاحتمال.. حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته; فيفتن عن دينه. وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته..
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها. لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة; ونفرض على أوامره أسبابا وعللا، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية. أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة.. وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف. أو أي حكم في شريعة الله - لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما - فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف; أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه.. فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال. ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو حكمة; هو الحكمة التي أرادها الله.. نصا.. وليس وراءها شيء، وليس من دونها شيء! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله. ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في [ ص: 714 ] الطبيعة والحقيقة.
وبهذا الأدب الواجب نتناول مكة وفرضيته في المدينة .. نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب.. على أنه مجرد احتمال.. وندع ما وراءه لله. لا نفرض على أمره أسبابا وعللا، لا يعلمها إلا هو.. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح! حكمة عدم فرض الجهاد في
إنها أسباب.. اجتهادية.. تخطئ وتصيب. وتنقص وتزيد. ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله. وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
"أ" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد; في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محورا لحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته.. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه; فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج. ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.. وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته; ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء "المجتمع المسلم" الخاضع لقيادة موجهة; المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي.
"ب" وربما كان ذلك أيضا، لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ، في مثل بيئة قريش ; ذات العنجهية والشرف; والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس - أعواما طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبدا. ويتحول الإسلام من دعوة، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبدا!
"ج" وربما كان ذلك أيضا، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هم ويفتنونه و "يؤدبونه" ! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت.. ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمدا يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي.. في كل بيت وكل محلة؟
"د" وربما كان ذلك أيضا، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم; هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.. ألم يكن من بين هؤلاء؟! عمر بن الخطاب
"هـ" وربما كان ذلك، أيضا، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من أبا بكر مكة ، ورأى في ذلك عارا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته ... وآخر هذه الظواهر [ ص: 715 ] نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة.. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة; وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!
"و" وربما كان ذلك أيضا، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة; حيث كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف.. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة. ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دين جاء ليكون منهج حياة، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة.
"ز" في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى. لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا.. هذا الأمر الأساسي هو "وجود الدعوة" .. وجودها في شخص الداعية - صلى الله عليه وسلم - وشخصه في حماية سيوف بني هاشم ، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم ، إذا هي امتدت يدها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية.. وكان الداعية يبلغ دعوته - إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة ، ومن فوق جبل الصفا وفي اجتماعات عامة.. ولا يجرؤ أحد على سد فمه; ولا يجرؤ أحد على خطفه وسجنه أو قتله! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله; يعلن فيه بعض حقيقة دينه; ويسكت عن بعضها. وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف. وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت. وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا. أي: أن يجاملهم فيجاملوه; بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته، لم يدهن ... وعلى الجملة كان للدعوة "وجودها" الكامل، في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محروسا بسيوف بني هاشم وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة.. ومن ثم لم تكن هناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة.
هذه الاعتبارات كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.. لتتم تربيتهم وإعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة; وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب. وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ. لتكون خالصة لله. وفي سبيل الله.. والدعوة لها "وجودها" وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة ...
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال:
فلما كتب عليهم القتال، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! . [ ص: 716 ] وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشئ فيه حالة من الخلخلة وينشئ فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع، وبين الرجال المؤمنين، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة; المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا. ولكن في موضعها المناسب. فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية. أما الحماسة قبل الأمر، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور، يتبخر عند مواجهة الخطر!
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني: قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة ..
إنهم يخشون الموت، ويريدون الحياة. ويتمنون في حسرة مسكينة! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ومد لهم - شيئا - في المتاع بالحياة! والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها; ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل.. قل متاع الدنيا قليل ..
متاع الدنيا كله. والدنيا كلها. فما بال أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير. إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا؟! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين. ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل!؟
والآخرة خير لمن اتقى ..
فالدنيا - أولا - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة.. إنها مرحلة.. ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير - فهي خير .. خير لمن اتقى .. وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها. التقوى لله. فهو الذي يتقى، وهو الذي يخشى. وليس الناس.. الناس الذين سبق أن قال: إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس. والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا. فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد؟
ولا تظلمون فتيلا ..
فلا غبن ولا ضير ولا بخس; إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا. فهناك الآخرة. وهناك الجزاء الأوفى; الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا!
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض! حتى وهو يؤمن بالآخرة، وهو ينتظر جزاءها الخير.. وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة! هنا تجيء اللمسة الأخرى. اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة، والأجل والقدر; وعلاقة هذا كله بتكليف القتال، الذي جزعوا له هذا الجزع، وخشوا الناس فيه هذه الخشية!.
أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة ..
فالموت حتم في موعده المقدر. ولا علاقة له بالحرب والسلم. ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته. ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن; ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده.. [ ص: 717 ] هذا أمر وذاك أمر; ولا علاقة بينهما.. إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل. بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد.. وليست هنالك علاقة أخرى.. ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال. ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال! وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر; وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر..
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبة ووقاية.. فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر. وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف. وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة.. ولكن هذا كله شيء، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر.. إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع، وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله.. وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع; وله حكمته الظاهرة والخفية، ووراءه تدبير الله.. توازن واعتدال. وإلمام بجميع الأطراف. وتناسق بين جميع الأطراف..
هذا هو الإسلام. وهذا هو منهج التربية الإسلامي، للأفراد والجماعات..