ويستطرد السياق في مواجهة أهل الكتاب -
nindex.php?page=treesubj&link=32423واليهود منهم في هذا الموضع خاصة - وموقفهم من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وزعمهم أن الله لم يرسله ، وتفريقهم بين الرسل ، وتعنتهم وهم يطلبون أمارة
[ ص: 805 ] على رسالته : كتابا ينزله عليهم من السماء . . فيقرر أن الوحي للرسول ليس بدعا ، وليس غريبا ، فهو سنة الله في إرسال الرسل جميعا ، من عهد
نوح إلى عهد
محمد . وكلهم رسل أرسلوا للتبشير والإنذار ; اقتضت هذا رحمة الله بعباده ، وأخذه الحجة عليهم ، وإنذاره لهم قبل يوم الحساب . . وكلهم جاءوا بوحي واحد ، لهدف واحد ; فالتفرقة بينهم تعنت لا يستند إلى دليل . . وإذا أنكروا هم وتعنتوا فإن الله يشهد - وكفى به شاهدا - والملائكة يشهدون .
nindex.php?page=treesubj&link=28975_31827_31848_31884_31891_31903_31954_31955_31970_31975_31980_33953_33975_34177_34185nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=163إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان، وآتينا داود زبورا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وكان الله عزيزا حكيما . .
فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول ، ورسالة واحدة بهدي واحد للإنذار والتبشير . . موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر :
نوح .
وإبراهيم .
وإسماعيل .
وإسحاق .
ويعقوب . والأسباط .
وعيسى .
وأيوب ويونس .
وهارون .
وسليمان .
وداود .
وموسى . . . وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن ، وممن لم يقصصهم عليه . . موكب من شتى الأقوام والأجناس ، وشتى البقاع والأرضين . في شتى الآونة والأزمان . لا يفرقهم نسب ولا جنس ، ولا أرض ولا وطن . ولا زمن ولا بيئة . كلهم آت من ذلك المصدر الكريم . وكلهم يحمل ذلك النور الهادي . وكلهم يؤدي الإنذار والتبشير . وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور . . سواء منهم من جاء لعشيرة . ومن جاء لقوم . ومن جاء لمدينة ومن جاء لقطر . . ثم من جاء للناس أجمعين :
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين .
كلهم تلقى الوحي من الله . فما جاء بشيء من عنده . وإذا كان الله قد كلم
موسى تكليما فهو لون من الوحي لا يعرف أحد كيف كان يتم . لأن القرآن - وهو المصدر الوحيد الصحيح الذي لا يرقى الشك إلى صحته - لم يفصل لنا في ذلك شيئا . فلا نعلم إلا أنه كان كلاما . ولكن ما طبيعته ؟ كيف تم ؟ بأية حاسة أو قوة كان
موسى يتلقاه ؟ . . . كل ذلك غيب من الغيب لم يحدثنا عنه القرآن . وليس وراء القرآن - في هذا الباب - إلا أساطير لا تستند إلى برهان .
أولئك الرسل - من قص الله على رسوله منهم ومن لم يقصص - اقتضت عدالة الله ورحمته أن يبعث بهم إلى عباده يبشرونهم بما أعده الله للمؤمنين الطائعين من نعيم ورضوان ; وينذرونهم ما أعده الله للكافرين العصاة من جحيم وغضب . . كل ذلك :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . .
ولله الحجة البالغة في الأنفس والآفاق ; وقد أعطى الله البشر من العقل ما يتدبرون به دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق . ولكنه - سبحانه - رحمة منه بعباده ، وتقديرا لغلبة الشهوات على تلك الأداة العظيمة التي أعطاها لهم - أداة العقل - اقتضت رحمته وحكمته أن يرسل إليهم الرسل
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165مبشرين ومنذرين يذكرونهم ويبصرونهم ; ويحاولون استنقاذ فطرتهم وتحرير عقولهم من ركام الشهوات ، التي تحجب عنها أو تحجبها عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165وكان الله عزيزا حكيما .
. .
[ ص: 806 ] عزيزا : قادرا على أخذ العباد بما كسبوا . حكيما : يدبر الأمر كله بالحكمة ويضع كل أمر في نصابه . . والقدرة والحكمة لهما عملهما فيما قدره الله في هذا الأمر وارتضاه . .
ونقف من هذه اللفتة :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل أمام حشد من الإيحاءات اللطيفة العميقة ونختار منه ثلاثا على سبيل الاختصار الذي لا يخرج بنا من الظلال .
نقف منها : أولا : أمام قيمة العقل البشري ووظيفته ودوره في أخطر قضايا "الإنسان" قضية الإيمان بالله; التي تقوم عليها حياته في الأرض من جذورها ; بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعياتها وتصرفاتها ; كما يقوم عليها مآله في الآخرة وهي أكبر وأبقى .
لو كان الله - سبحانه - وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها ، يعلم أن العقل البشري ، الذي وهبه للإنسان ، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته ، في دنياه وآخرته ، لوكله إلى هذا العقل وحده ; يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته ، فتستقيم على الحق والصواب ; ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ ; ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم ; وتبليغهم عن ربهم ; ولما جعل حجة الناس عنده - سبحانه - هي عدم مجيء الرسل إليهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . . ولكن لما علم الله - سبحانه - أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى - بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط - وقاصرة كذلك عن رسم منهج للحياة الإنسانية يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة ; وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة . . لما علم الله - سبحانه - هذا شاءت حكمته وشاءت رحمته أن يبعث للناس بالرسل ، وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . . وهذه تكاد تكون إحدى البديهيات التي تبرز من هذا النص القرآني . . فإن لم تكن بديهية فهي إحدى المقتضيات الحتمية . .
إذن . . ما هي وظيفة هذا العقل البشري ; وما هو دوره في قضية الإيمان والهدى ; وفي قضية منهج الحياة ونظامها ؟
إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة ; ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول . ومهمة الرسول أن يبلغ ، ويبين ، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام . وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ; وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ، ومنهج النظر الصحيح ; وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية ، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة .
وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان ، والقبول أو الرفض - بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله ; وبعد أن يفهم المقصود بها : أي المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص - ولو كان له أن يقبلها أو يرفضها - بعد إدراك مدلولها ، لأنه هو لا يوافق على هذا المدلول ! أو لا يريد أن يستجيب له - ما استحق العقاب من الله على الكفر بعد البيان . . فهو إذن ملزم بقبول مقررات الدين متى بلغت إليه عن طريق صحيح ، ومتى فهم عقله ما المقصود بها وما المراد منها . .
إن هذه الرسالة تخاطب العقل . . بمعنى أنها توقظه ، وتوجهه ، وتقيم له منهج النظر الصحيح . . لا بمعنى أنه هو الذي يحكم بصحتها أو بطلانها ، وبقبولها أو رفضها . ومتى ثبت النص كان هو الحكم ; وكان على العقل البشري أن يقبله ويطيعه وينفذه ; سواء كان مدلوله مألوفا له أو غريبا عليه . .
[ ص: 807 ] إن دور العقل - في هذا الصدد - هو أن يفهم ما الذي يعنيه النص . وما مدلوله الذي يعطيه حسب معاني العبارة في اللغة والاصطلاح . وعند هذا الحد ينتهي دوره . . إن المدلول الصحيح للنص لا يقبل البطلان أو الرفض بحكم من هذا العقل . فهذا النص من عند الله ، والعقل ليس إلها يحكم بالصحة أو البطلان ، وبالقبول أو الرفض لما جاء من عند الله .
وعند هذه النقطة الدقيقة يقع خلط كثير . . سواء ممن يريدون تأليه العقل البشري فيجعلونه هو الحكم في صحة أو بطلان المقررات الدينية الصحيحة . . أو ممن يريدون إلغاء العقل ، ونفي دوره في الإيمان والهدى . . والطريق الوسط الصحيح هو الذي بيناه هنا . . من أن الرسالة تخاطب العقل ليدرك مقرراتها ; وترسم له المنهج الصحيح للنظر في هذه المقررات ، وفي شؤون الحياة كلها . فإذا أدرك مقرراتها - أي : إذا فهم ماذا يعني النص - لم يعد أمامه إلا التصديق والطاعة والتنفيذ . . فهي لا تكلف الإنسان العمل بها سواء فهمها أم لم يفهمها . وهي كذلك لا تبيح له مناقشة مقرراتها متى أدرك هذه المقررات ، وفق مفهوم نصوصها . . مناقشتها ليقبلها أو يرفضها . ليحكم بصحتها أو خطئها . . وقد علم أنها جاءته من عند الله . الذي لا يقص إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالخير .
والمنهج الصحيح في التلقي عن الله ، هو ألا يواجه العقل مقررات الدين الصحيحة - بعد أن يدرك المقصود بها - بمقررات له سابقة عليها ; كونها لنفسه من مقولاته "المنطقية" ! أو من ملاحظاته المحدودة ; أو من تجاربه الناقصة . . إنما المنهج الصحيح أن يتلقى النصوص الصحيحة ، ويكون منها مقرراته هو ! فهي أصح من مقرراته الذاتية ; ومنهجها أقوم من منهجه الذاتي - قبل أن يضبط بموازين النظر الدينية الصحيحة - ومن ثم لا يحاكم العقل مقررات الدين - متى صح عنده أنها من الله - إلى أية مقررات أخرى من صنعه الخاص ! . .
إن العقل ليس إلها ، ليحاكم بمقرراته الخاصة مقررات الله . .
إن له أن يعارض مفهوما عقليا بشريا للنص بمفهوم عقلي بشري آخر له . . هذا مجاله ، ولا حرج عليه في هذا ولا حجر ما دام هنالك من الأصول الصحيحة مجال للتأول والأفهام المتعددة . وحرية النظر - على أصوله الصحيحة وبالضوابط التي يقررها الدين نفسه - مكفولة للعقول البشرية في هذا المجال الواسع . وليس هنالك من هيئة ، ولا سلطة ، ولا شخص ، يملك الحجر على العقول ، في إدراك المقصود بالنص الصحيح وأوجه تطبيقه - متى كان قابلا لأوجه الرأي المتعددة ، ومتى كان النظر في حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح ، المأخوذ من مقررات الدين - وهذا كذلك معنى أن هذه الرسالة تخاطب العقل . .
إن الإسلام دين العقل . . نعم . . بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته ; ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال له فيها إلا الإذعان . ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له منهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق ; ليرفع عن الفطرة ركام الإلف والعادة والبلادة ; وركام الشهوات المضلة للعقل والفطرة . ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته ، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه . . فإذا وصل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات لم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن ، أو عدم التسليم بها فهو كافر . . وليس هو حكما في صحتها أو بطلانها . وليس هو مأذونا في قبولها أو رفضها ، كما يقول من يبتغون أن يجعلوا من هذا العقل إلها ، يقبل من المقررات الدينية الصحيحة ما يقبل ، ويرفض منها ما يرفض ، ويختار منها ما يشاء ، ويترك منها ما يشاء . .
[ ص: 808 ] فهذا هو الذي يقول الله عنه :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ ويرتب عليه صفة الكفر ، ويرتب عليه كذلك العقاب . .
فإذا قرر الله - سبحانه - حقيقة في أمر الكون ، أو أمر الإنسان ، أو أمر الخلائق الأخرى . أو إذا قرر أمرا في الفرائض ، أو في النواهي . . فهذا الذي قرره الله واجب القبول والطاعة ممن يبلغ إليه . متى أدرك المدلول المراد منه . .
إذا قال الله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=12الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ..
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ..
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=45والله خلق كل دابة من ماء ..
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خلق الإنسان من صلصال كالفخار nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وخلق الجان من مارج من نار إلى آخر ما قال - سبحانه - عن طبيعة الكون والكائنات والأحياء والأشياء . . فالحق هو ما قال . وليس للعقل أن يقول - بعد أن يفهم مدلول النصوص والمقررات التي تنشئها - إنني لا أجد هذا في مقرراتي ، أو في علمي ، أو في تجاربي . . فكل ما يبلغه العقل في هذا معرض للخطأ والصواب . وما قرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الحق والصواب .
وإذا قال الله سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=278يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=279فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ..
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=33وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ... ..
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=31وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن.. .. إلى آخر ما قال في شأن منهج الحياة البشرية فالحق هو ما قال - سبحانه - وليس للعقل أن يقول : ولكنني أرى المصلحة في كذا وكذا مما يخالف عن أمر الله ، أو فيما لم يأذن به الله ولم يشرعه للناس . . فما يراه العقل مصلحة يحتمل الخطأ والصواب ، وتدفع إليه الشهوات والنزوات . . وما يقرره الله - سبحانه - لا يحتمل إلا الصحة والصلاح . .
وما قرره الله سبحانه من العقائد والتصورات ، أو من منهج الحياة ونظامها ، سواء في موقف العقل إزاءه . . متى صح النص ، وكان قطعي الدلالة ; ولم يوقت بوقت . . فليس للعقل أن يقول : آخذ في العقائد والشعائر التعبدية ; ولكني أرى أن الزمن قد تغير في منهج الحياة ونظامها . . فلو شاء الله أن يوقت مفعول النصوص لوقته . فما دام النص مطلقا فإنه يستوي زمان نزوله وآخر الزمان . . احترازا من الجرأة على الله ، ورمي علمه بالنقص والقصور - سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا - إنما يكون الاجتهاد في تطبيق النص العام على الحالة الجزئية ; لا في قبول المبدأ العام أو رفضه ، تحت أي مقولة من مقولات العقل في جيل من الأجيال !
وليس في شيء من هذا الذي نقرره انتقاص من قيمة العقل ودوره في الحياة البشرية . . فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة - بعد أن ينضبط هو بمنهج النظر وموازينه المستقاة من دين الله وتعليمه الصحيح - والمدى أمامه أوسع في المعرفة بطبيعة هذا الكون وطاقاته وقواه ومدخراته ; وطبيعة الكائنات فيه والأحياء ; والانتفاع بما سخر الله له من هذا الكون ومن هذه الكائنات والأحياء ; وتنمية الحياة وتطويرها وترقيتها - في حدود منهج الله - لا كما تبتغي الشهوات والأهواء التي تضل العقل وتغطي الفطرة بالركام ! .
ونقف من هذه اللفتة :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقفة أخرى :
[ ص: 809 ] نقف منها أمام التبعة العظيمة الملقاة على الرسل - صلوات الله عليهم - ومن بعدهم على المؤمنين برسالاتهم تجاه البشرية كلها . . وهي تبعة ثقيلة بمقدار ما هي عظيمة . .
إن مصائر البشرية كلها في الدنيا وفي الآخرة سواء ، منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم . فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر ، تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم ، ويترتب ثوابهم أو عقابهم . . في الدنيا والآخرة .
إنه أمر هائل عظيم . . ولكنه كذلك . . ومن ثم كان الرسل - صلوات الله عليهم - يحسون بجسامة ما يكلفون . وكان الله - سبحانه - يبصرهم بحقيقة العبء الذي ينوطه بهم . . وهذا هو الذي يقول الله عنه لنبيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=5إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . . ويعلمه كيف يتهيأ له ويستعد :
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=1يا أيها المزمل nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=2قم الليل إلا قليلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=3نصفه أو انقص منه قليلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=4أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=5 .. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=23إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=24فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=25واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=26ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا .. وهذا هو الذي يشعر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو يأمره أن يقول وأن يستشعر حقيقة ما يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=22قل: إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملتحدا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=23إلا بلاغا من الله ورسالاته ..
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=26عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=27إلا من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=28ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ..
إنه الأمر الهائل العظيم . . أمر رقاب الناس . . أمر حياتهم ومماتهم . . أمر سعادتهم وشقائهم . . أمر ثوابهم وعقابهم . . أمر هذه البشرية ، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة . وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى في الدنيا والآخرة . وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها ، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ !
فأما رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل . . وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ، ولكن بلغوها - مع هذا - قدوة ممثلة في العمل ، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق . . سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك ، وضلالات تزين ، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين . كما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين . بما أنه المبلغ الأخير . وبما أن رسالته هي خاتمة الرسالات . فلم يكتف بإزالة العوائق باللسان . إنما أزالها كذلك بالسنان
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=193حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . .
وبقي الواجب الثقيل على من بعده . . على المؤمنين برسالته . . فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجيء بعده - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ هذه الأجيال منوط - بعده - بأتباعه . ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة - تبعة إقامة حجة الله على الناس وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا - إلا بالتبليغ والأداء . . على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدى . . فالرسالة هي الرسالة ; والناس هم الناس . . وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات . . وهناك قوى عاتية طاغية تقوم دون الناس ودون الدعوة ; وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة . . الموقف هو الموقف ; والعقبات هي العقبات ، والناس هم الناس .
ولا بد من بلاغ ، ولا بد من أداء . بلاغ بالبيان . وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون . وبلاغ بإزالة العقبات التي تعترض طريق الدعوة ; وتفتن الناس بالباطل وبالقوة . . وإلا فلا بلاغ ولا أداء . .
[ ص: 810 ] إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله . . وإلا فهي التبعة الثقيلة . تبعة ضلال البشرية كلها ; وشقوتها في هذه الدنيا ، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة ! وحمل التبعة في هذا كله ، وعدم النجاة من النار . .
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة ؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائص وتهز المفاصل ؟ ! إن الذي يقول : إنه "مسلم " إما أن يبلغ ويؤدي هكذا . وإلا فلا نجاة له في دنيا ولا في أخرى . . إنه حين يقول : إنه "مسلم " ثم لا يبلغ ولا يؤدي . . كل ألوان البلاغ والأداء هذه ، إنما يؤدي شهادة ضد الإسلام الذي يدعيه ! بدلا من أداء شهادة له ، تحقق فيه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .
وتبدأ شهادته للإسلام ، من أن يكون هو بذاته . ثم ببيته وعائلته . ثم بأسرته وعشيرته ، صورة واقعية من الإسلام الذي يدعو إليه . . وتخطو شهادته الخطوة الثانية بقيامه بدعوة الأمة - بعد دعوة البيت والأسرة والعشيرة - إلى تحقيق الإسلام في حياتها كلها . . الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية . . وتنتهي شهادته بالجهاد لإزالة العوائق التي تضل الناس وتفتنهم من أي لون كانت هذه العوائق . . فإذ استشهد في هذا فهو إذن "شهيد " أدى شهادته لدينه ، ومضى إلى ربه . . وهذا وحده هو "الشهيد " .
وَيَسْتَطْرِدُ السِّيَاقُ فِي مُوَاجَهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ -
nindex.php?page=treesubj&link=32423وَالْيَهُودُ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً - وَمَوْقِفِهِمْ مِنْ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَعْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْهُ ، وَتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الرُّسُلِ ، وَتَعَنُّتِهِمْ وَهُمْ يَطْلُبُونَ أَمَارَةً
[ ص: 805 ] عَلَى رِسَالَتِهِ : كِتَابًا يُنْزِلُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ . . فَيُقَرِّرُ أَنَّ الْوَحْيَ لِلرَّسُولِ لَيْسَ بِدْعًا ، وَلَيْسَ غَرِيبًا ، فَهُوَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ جَمِيعًا ، مِنْ عَهْدِ
نُوحٍ إِلَى عَهْدِ
مُحَمَّدٍ . وَكُلُّهُمْ رُسُلٌ أُرْسِلُوا لِلتَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ ; اقْتَضَتْ هَذَا رَحْمَةُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ ، وَأَخْذُهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْذَارُهُ لَهُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ . . وَكُلُّهُمْ جَاءُوا بِوَحْيٍ وَاحِدٍ ، لِهَدَفٍ وَاحِدٍ ; فَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمْ تَعَنُّتٌ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ . . وَإِذَا أَنْكَرُوا هُمْ وَتَعَنَّتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَشْهَدُ - وَكَفَى بِهِ شَاهِدًا - وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ .
nindex.php?page=treesubj&link=28975_31827_31848_31884_31891_31903_31954_31955_31970_31975_31980_33953_33975_34177_34185nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=163إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ، وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ، وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=164وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. وَكَانَ اللَّهِ عَزِيزًا حَكِيمًا . .
فَهُوَ إِذَنْ مَوْكِبٌ وَاحِدٌ يَتَرَاءَى عَلَى طَرِيقِ التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ الْمَوْصُولِ ، وَرِسَالَةٌ وَاحِدَةٌ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِلْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ . . مَوْكِبٌ وَاحِدٌ يَضُمُّ هَذِهِ الصَّفْوَةَ الْمُخْتَارَةَ مِنْ بَيْنِ الْبَشَرِ :
نُوحٌ .
وَإِبْرَاهِيمُ .
وَإِسْمَاعِيلُ .
وَإِسْحَاقُ .
وَيَعْقُوبُ . وَالْأَسْبَاطُ .
وَعِيسَى .
وَأَيُّوبُ وَيُونُسُ .
وَهَارُونُ .
وَسُلَيْمَانُ .
وَدَاوُدُ .
وَمُوسَى . . . وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَصَّهُمُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ ، وَمِمَّنْ لَمْ يَقْصُصْهُمْ عَلَيْهِ . . مَوْكِبٌ مِنْ شَتَّى الْأَقْوَامِ وَالْأَجْنَاسِ ، وَشَتَّى الْبِقَاعِ وَالْأَرَضِينَ . فِي شَتَّى الْآوِنَةِ وَالْأَزْمَانِ . لَا يُفَرِّقُهُمْ نَسَبٌ وَلَا جِنْسٌ ، وَلَا أَرْضٌ وَلَا وَطَنٌ . وَلَا زَمَنٌ وَلَا بِيئَةٌ . كُلُّهُمْ آتٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ الْكَرِيمِ . وَكُلُّهُمْ يَحْمِلُ ذَلِكَ النُّورَ الْهَادِيَ . وَكُلُّهُمْ يُؤَدِّي الْإِنْذَارَ وَالتَّبْشِيرَ . وَكُلُّهُمْ يُحَاوِلُ أَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ الْقَافِلَةِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى ذَلِكَ النُّورِ . . سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ جَاءَ لِعَشِيرَةٍ . وَمَنْ جَاءَ لِقَوْمٍ . وَمَنْ جَاءَ لِمَدِينَةٍ وَمَنْ جَاءَ لِقُطْرٍ . . ثُمَّ مَنْ جَاءَ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ :
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ .
كُلُّهُمْ تَلَقَّى الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ . فَمَا جَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِهِ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ كَلَّمَ
مُوسَى تَكْلِيمًا فَهُوَ لَوْنٌ مِنَ الْوَحْيِ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ كَيْفَ كَانَ يَتِمُّ . لِأَنَّ الْقُرْآنَ - وَهُوَ الْمَصْدَرُ الْوَحِيدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَرْقَى الشَّكُّ إِلَى صِحَّتِهِ - لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا . فَلَا نَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ كَلَامًا . وَلَكِنْ مَا طَبِيعَتُهُ ؟ كَيْفَ تَمَّ ؟ بِأَيَّةِ حَاسَّةٍ أَوْ قُوَّةٍ كَانَ
مُوسَى يَتَلَقَّاهُ ؟ . . . كُلُّ ذَلِكَ غَيْبٌ مِنَ الْغَيْبِ لَمْ يُحَدِّثْنَا عَنْهُ الْقُرْآنُ . وَلَيْسَ وَرَاءَ الْقُرْآنِ - فِي هَذَا الْبَابِ - إِلَّا أَسَاطِيرُ لَا تَسْتَنِدُ إِلَى بُرْهَانٍ .
أُولَئِكَ الرُّسُلُ - مَنْ قَصَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يَقْصُصْ - اقْتَضَتْ عَدَالَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِمْ إِلَى عِبَادِهِ يُبَشِّرُونَهُمْ بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الطَّائِعِينَ مِنْ نَعِيمٍ وَرِضْوَانٍ ; وَيُنْذِرُونَهُمْ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ الْعُصَاةِ مِنْ جَحِيمٍ وَغَضَبٍ . . كُلُّ ذَلِكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ . .
وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; وَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ الْبَشَرَ مِنَ الْعَقْلِ مَا يَتَدَبَّرُونَ بِهِ دَلَائِلَ الْإِيمَانِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ . وَلَكِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ ، وَتَقْدِيرًا لِغَلَبَةِ الشَّهَوَاتِ عَلَى تِلْكَ الْأَدَاةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَعْطَاهَا لَهُمْ - أَدَاةِ الْعَقْلِ - اقْتَضَتْ رَحْمَتُهُ وَحِكْمَتُهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يُذَكِّرُونَهُمْ وَيُبَصِّرُونَهُمْ ; وَيُحَاوِلُونَ اسْتِنْقَاذَ فِطْرَتِهِمْ وَتَحْرِيرَ عُقُولِهِمْ مِنْ رُكَامِ الشَّهَوَاتِ ، الَّتِي تَحْجُبُ عَنْهَا أَوْ تَحْجُبُهَا عَنْ دَلَائِلِ الْهُدَى وَمُوحِيَاتِ الْإِيمَانِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا .
. .
[ ص: 806 ] عَزِيزًا : قَادِرًا عَلَى أَخْذِ الْعِبَادِ بِمَا كَسَبُوا . حَكِيمًا : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِالْحِكْمَةِ وَيَضَعُ كُلَّ أَمْرٍ فِي نِصَابِهِ . . وَالْقُدْرَةُ وَالْحِكْمَةُ لَهُمَا عَمَلُهُمَا فِيمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَارْتَضَاهُ . .
وَنَقِفُ مِنْ هَذِهِ اللَّفْتَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أَمَامَ حَشْدٍ مِنَ الْإِيحَاءَاتِ اللَّطِيفَةِ الْعَمِيقَةِ وَنَخْتَارُ مِنْهُ ثَلَاثًا عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ بِنَا مِنَ الظِّلَالِ .
نَقِفُ مِنْهَا : أَوَّلًا : أَمَامَ قِيمَةِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ وَوَظِيفَتِهِ وَدَوْرِهِ فِي أَخْطَرِ قَضَايَا "الْإِنْسَانِ" قَضِيَّةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ; الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا حَيَاتُهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ جُذُورِهَا ; بِكُلِّ مُقَوِّمَاتِهَا وَاتِّجَاهَاتِهَا وَوَاقِعِيَّاتِهَا وَتَصَرُّفَاتِهَا ; كَمَا يَقُومُ عَلَيْهَا مَآلِهِ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ أَكْبَرُ وَأَبْقَى .
لَوْ كَانَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْإِنْسَانِ وَطَاقَاتِهِ كُلِّهَا ، يَعْلَمُ أَنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ ، الَّذِي وَهَبَهُ لِلْإِنْسَانِ ، هُوَ حَسَبَ هَذَا الْإِنْسَانِ فِي بُلُوغِ الْهُدَى لِنَفْسِهِ وَالْمَصْلَحَةِ لِحَيَاتِهِ ، فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ، لَوَكَلَهُ إِلَى هَذَا الْعَقْلِ وَحْدَهُ ; يَبْحَثُ عَنْ دَلَائِلِ الْهُدَى وَمُوحِيَاتِ الْإِيمَانِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ، وَيَرْسُمُ لِنَفْسِهِ كَذَلِكَ الْمَنْهَجَ الَّذِي تَقُومُ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ ، فَتَسْتَقِيمُ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ; وَلَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ الرُّسُلَ عَلَى مَدَى التَّارِيخِ ; وَلَمَّا جَعَلَ حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ هِيَ رِسَالَةُ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ ; وَتَبْلِيغُهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ ; وَلَمَّا جَعَلَ حُجَّةَ النَّاسِ عِنْدَهُ - سُبْحَانَهُ - هِيَ عَدَمُ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ . . وَلَكِنْ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي آتَاهُ لِلْإِنْسَانِ أَدَاةٌ قَاصِرَةٌ بِذَاتِهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْهُدَى - بِغَيْرِ تَوْجِيهٍ مِنَ الرِّسَالَةِ وَعَوْنٍ وَضَبْطٍ - وَقَاصِرَةٌ كَذَلِكَ عَنْ رَسْمِ مَنْهَجٍ لِلْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ يُحَقِّقُ الْمُصْلِحَةَ الصَّحِيحَةَ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ ; وَيُنْجِي صَاحِبَهُ مِنْ سُوءِ الْمَآلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . . لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - هَذَا شَاءَتْ حِكْمَتُهُ وَشَاءَتْ رَحْمَتُهُ أَنْ يَبْعَثَ لِلنَّاسِ بِالرُّسُلِ ، وَأَلَّا يُؤَاخِذَ النَّاسَ إِلَّا بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا . . وَهَذِهِ تَكَادُ تَكُونُ إِحْدَى الْبَدِيهِيَّاتِ الَّتِي تَبْرُزُ مِنْ هَذَا النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ . . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَدِيهِيَّةً فَهِيَ إِحْدَى الْمُقْتَضَيَاتِ الْحَتْمِيَّةِ . .
إِذَنْ . . مَا هِيَ وَظِيفَةُ هَذَا الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ ; وَمَا هُوَ دَوْرُهُ فِي قَضِيَّةِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى ; وَفِي قَضِيَّةِ مَنْهَجِ الْحَيَاةِ وَنِظَامِهَا ؟
إِنَّ دَوْرَ هَذَا الْعَقْلِ أَنْ يَتَلَقَّى عَنِ الرِّسَالَةِ ; وَوَظِيفَتَهُ أَنْ يَفْهَمَ مَا يَتَلَقَّاهُ عَنِ الرَّسُولِ . وَمُهِمَّةُ الرَّسُولِ أَنْ يُبَلِّغَ ، وَيُبَيِّنَ ، وَيَسْتَنْقِذَ الْفِطْرَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِمَّا يَرِينُ عَلَيْهَا مِنَ الرُّكَامِ . وَيُنَبِّهَ الْعَقْلَ الْإِنْسَانِيَّ إِلَى تَدَبُّرِ دَلَائِلِ الْهُدَى وَمُوحِيَاتِ الْإِيمَانِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; وَأَنْ يَرْسُمَ لَهُ مَنْهَجَ التَّلَقِّي الصَّحِيحِ ، وَمَنْهَجَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ ; وَأَنْ يُقِيمَ لَهُ الْقَاعِدَةَ الَّتِي يَنْهَضُ عَلَيْهَا مَنْهَجُ الْحَيَاةِ الْعَمَلِيَّةِ ، الْمُؤَدِّي إِلَى خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَلَيْسَ دَوْرُ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ حَاكِمًا عَلَى الدِّينِ وَمُقَرَّرَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ ، وَالْقَبُولُ أَوِ الرَّفْضُ - بَعْدَ أَنْ يَتَأَكَّدَ مِنْ صِحَّةِ صُدُورِهَا عَنِ اللَّهِ ; وَبَعْدَ أَنْ يَفْهَمَ الْمَقْصُودَ بِهَا : أَيِ الْمَدْلُولَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالِاصْطِلَاحِيَّةِ لِلنَّصِّ - وَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا أَوْ يَرْفُضَهَا - بَعْدَ إِدْرَاكِ مَدْلُولِهَا ، لِأَنَّهُ هُوَ لَا يُوَافَقُ عَلَى هَذَا الْمَدْلُولِ ! أَوْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ - مَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْبَيَانِ . . فَهُوَ إِذَنْ مُلْزَمٌ بِقَبُولِ مُقَرَّرَاتِ الدِّينِ مَتَى بَلَغَتْ إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ ، وَمَتَى فَهِمَ عَقْلُهُ مَا الْمَقْصُودُ بِهَا وَمَا الْمُرَادُ مِنْهَا . .
إِنَّ هَذِهِ الرِّسَالَةَ تُخَاطِبُ الْعَقْلَ . . بِمَعْنَى أَنَّهَا تُوقِظُهُ ، وَتُوَجِّهُهُ ، وَتُقِيمُ لَهُ مَنْهَجَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ . . لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا أَوْ بُطْلَانِهَا ، وَبِقَبُولِهَا أَوْ رَفْضِهَا . وَمَتَى ثَبَتَ النَّصُّ كَانَ هُوَ الْحَكَمَ ; وَكَانَ عَلَى الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُطِيعَهُ وَيُنَفِّذَهُ ; سَوَاءٌ كَانَ مَدْلُولُهُ مَأْلُوفًا لَهُ أَوْ غَرِيبًا عَلَيْهِ . .
[ ص: 807 ] إِنَّ دَوْرَ الْعَقْلِ - فِي هَذَا الصَّدَدِ - هُوَ أَنْ يَفْهَمَ مَا الَّذِي يَعْنِيهِ النَّصُّ . وَمَا مَدْلُولُهُ الَّذِي يُعْطِيهِ حَسَبَ مَعَانِي الْعِبَارَةِ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ . وَعِنْدَ هَذَا الْحَدِّ يَنْتَهِي دَوْرُهُ . . إِنَّ الْمَدْلُولَ الصَّحِيحَ لِلنَّصِّ لَا يَقْبَلُ الْبُطْلَانَ أَوِ الرَّفْضَ بِحُكْمٍ مِنْ هَذَا الْعَقْلِ . فَهَذَا النَّصُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ إِلَهًا يَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ أَوِ الْبُطْلَانِ ، وَبِالْقَبُولِ أَوِ الرَّفْضِ لِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .
وَعِنْدَ هَذِهِ النُّقْطَةِ الدَّقِيقَةِ يَقَعُ خَلْطٌ كَثِيرٌ . . سَوَاءٌ مِمَّنْ يُرِيدُونَ تَأْلِيهَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فَيَجْعَلُونَهُ هُوَ الْحَكَمَ فِي صِحَّةِ أَوْ بُطْلَانِ الْمُقَرَّرَاتِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ . . أَوْ مِمَّنْ يُرِيدُونَ إِلْغَاءَ الْعَقْلِ ، وَنَفْيَ دَوْرِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالْهُدَى . . وَالطَّرِيقُ الْوَسَطُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَاهُ هُنَا . . مِنْ أَنَّ الرِّسَالَةَ تُخَاطِبُ الْعَقْلَ لِيُدْرِكَ مُقَرَّرَاتِهَا ; وَتَرْسُمَ لَهُ الْمَنْهَجَ الصَّحِيحَ لِلنَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمُقَرَّرَاتِ ، وَفِي شُؤُونِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا . فَإِذَا أَدْرَكَ مُقَرَّرَاتِهَا - أَيْ : إِذَا فَهِمَ مَاذَا يَعْنِي النَّصُّ - لَمْ يَعُدْ أَمَامَهُ إِلَّا التَّصْدِيقُ وَالطَّاعَةُ وَالتَّنْفِيذُ . . فَهِيَ لَا تُكَلِّفُ الْإِنْسَانَ الْعَمَلَ بِهَا سَوَاءٌ فَهِمَهَا أَمْ لَمْ يَفْهَمْهَا . وَهِيَ كَذَلِكَ لَا تُبِيحُ لَهُ مُنَاقِشَةَ مُقَرَّرَاتِهَا مَتَى أَدْرَكَ هَذِهِ الْمُقَرَّرَاتِ ، وَفْقَ مَفْهُومِ نُصُوصِهَا . . مُنَاقَشَتُهَا لِيَقْبَلَهَا أَوْ يَرْفُضَهَا . لِيَحْكُمَ بِصِحَّتِهَا أَوْ خَطَئِهَا . . وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا جَاءَتْهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . الَّذِي لَا يَقُصُّ إِلَّا الْحَقَّ ، وَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ .
وَالْمَنْهَجُ الصَّحِيحُ فِي التَّلَقِّي عَنِ اللَّهِ ، هُوَ أَلَّا يُوَاجِهَ الْعَقْلُ مُقَرَّرَاتِ الدِّينِ الصَّحِيحَةَ - بَعْدَ أَنْ يُدْرِكَ الْمَقْصُودَ بِهَا - بِمُقَرَّرَاتٍ لَهُ سَابِقَةٍ عَلَيْهَا ; كَوْنُهَا لِنَفْسِهِ مِنْ مَقُولَاتِهِ "الْمَنْطِقِيَّةِ" ! أَوْ مِنْ مُلَاحَظَاتِهِ الْمَحْدُودَةِ ; أَوْ مِنْ تَجَارِبِهِ النَّاقِصَةِ . . إِنَّمَا الْمَنْهَجُ الصَّحِيحُ أَنْ يَتَلَقَّى النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ ، وَيَكُونُ مِنْهَا مُقَرَّرَاتُهُ هُوَ ! فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ مُقَرَّرَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ ; وَمَنْهَجُهَا أَقُومُ مِنْ مَنْهَجِهِ الذَّاتِيِّ - قَبْلَ أَنْ يَضْبُطَ بِمَوَازِينِ النَّظَرِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ - وَمِنْ ثَمَّ لَا يُحَاكِمُ الْعَقْلُ مُقَرَّرَاتِ الدِّينِ - مَتَى صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ - إِلَى أَيَّةِ مُقَرَّرَاتٍ أُخْرَى مِنْ صُنْعِهِ الْخَاصِّ ! . .
إِنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ إِلَهًا ، لِيُحَاكِمْ بِمُقَرَّرَاتِهِ الْخَاصَّةِ مُقَرَّرَاتِ اللَّهِ . .
إِنَّ لَهُ أَنْ يُعَارِضَ مَفْهُومًا عَقْلِيًّا بَشَرِيًّا لِلنَّصِّ بِمَفْهُومٍ عَقْلِيٍّ بِشْرِيٍّ آخَرَ لَهُ . . هَذَا مَجَالُهُ ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي هَذَا وَلَا حَجْرَ مَا دَامَ هُنَالِكَ مِنَ الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ مَجَالٌ لِلتَّأَوُّلِ وَالْأَفْهَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ . وَحُرِّيَّةِ النَّظَرِ - عَلَى أُصُولِهِ الصَّحِيحَةِ وَبِالضَّوَابِطِ الَّتِي يُقَرِّرُهَا الدِّينُ نَفْسُهُ - مَكْفُولَةً لِلْعُقُولِ الْبَشَرِيَّةِ فِي هَذَا الْمَجَالِ الْوَاسِعِ . وَلَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ هَيْئَةٍ ، وَلَا سَلَطَةٍ ، وَلَا شَخْصٍ ، يَمْلِكُ الْحَجْرَ عَلَى الْعُقُولِ ، فِي إِدْرَاكِ الْمَقْصُودِ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ وَأَوْجُهِ تَطْبِيقِهِ - مَتَى كَانَ قَابِلًا لِأَوْجُهِ الرَّأْيِ الْمُتَعَدِّدَةِ ، وَمَتَى كَانَ النَّظَرُ فِي حُدُودِ الضَّوَابِطِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَنْهَجِ الصَّحِيحِ ، الْمَأْخُوذِ مِنْ مُقَرَّرَاتِ الدِّينِ - وَهَذَا كَذَلِكَ مَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الرِّسَالَةَ تُخَاطِبُ الْعَقْلَ . .
إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْعَقْلِ . . نَعَمْ . . بِمَعْنَى أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْعَقْلَ بِقَضَايَاهُ وَمُقَرَّرَاتِهِ ; وَلَا يَقْهَرُهُ بِخَارِقَةٍ مَادِّيَّةٍ لَا مَجَالَ لَهُ فِيهَا إِلَّا الْإِذْعَانُ . وَيُخَاطِبُ الْعَقْلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُصَحِّحُ لَهُ مَنْهَجَ النَّظَرِ وَيَدْعُوهُ إِلَى تَدَبُّرِ دَلَائِلِ الْهُدَى وَمُوحِيَاتِ الْإِيمَانِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; لِيَرْفَعَ عَنِ الْفِطْرَةِ رُكَامَ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ وَالْبَلَادَةِ ; وَرُكَامَ الشَّهَوَاتِ الْمُضِلَّةِ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ . وَيُخَاطِبُ الْعَقْلَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكِلُ إِلَيْهِ فَهْمَ مَدْلُولَاتِ النُّصُوصِ الَّتِي تَحْمِلُ مُقَرَّرَاتِهِ ، وَلَا يَفْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا لَا يَفْهَمُ مَدْلُولَهُ وَلَا يُدْرِكُهُ . . فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَرْحَلَةِ إِدْرَاكِ الْمَدْلُولَاتِ وَفَهْمِ الْمُقَرَّرَاتِ لَمْ يَعُدْ أَمَامَهُ إِلَّا التَّسْلِيمُ بِهَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، أَوْ عَدَمُ التَّسْلِيمِ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ . . وَلَيْسَ هُوَ حَكَمًا فِي صِحَّتِهَا أَوْ بُطْلَانِهَا . وَلَيْسَ هُوَ مَأْذُونًا فِي قَبُولِهَا أَوْ رَفْضِهَا ، كَمَا يَقُولُ مَنْ يَبْتَغُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مِنْ هَذَا الْعَقْلِ إِلَهًا ، يَقْبَلُ مِنَ الْمُقَرَّرَاتِ الدِّينِيَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا يَقْبَلُ ، وَيَرْفُضُ مِنْهَا مَا يَرْفُضُ ، وَيَخْتَارُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ ، وَيَتْرُكُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ . .
[ ص: 808 ] فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَنْهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ؟ وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ صِفَةَ الْكُفْرِ ، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ الْعِقَابَ . .
فَإِذَا قَرَّرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - حَقِيقَةً فِي أَمْرِ الْكَوْنِ ، أَوْ أَمْرِ الْإِنْسَانِ ، أَوْ أَمْرِ الْخَلَائِقِ الْأُخْرَى . أَوْ إِذَا قَرَّرَ أَمْرًا فِي الْفَرَائِضِ ، أَوْ فِي النَّوَاهِي . . فَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ اللَّهُ وَاجِبُ الْقَبُولِ وَالطَّاعَةِ مِمَّنْ يَبْلُغُ إِلَيْهِ . مَتَى أَدْرَكَ الْمَدْلُولَ الْمُرَادَ مِنْهُ . .
إِذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=12اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=45وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=14خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=15وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ - سُبْحَانَهُ - عَنْ طَبِيعَةِ الْكَوْنِ وَالْكَائِنَاتِ وَالْأَحْيَاءِ وَالْأَشْيَاءِ . . فَالْحَقُّ هُوَ مَا قَالَ . وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ أَنْ يَقُولَ - بَعْدَ أَنْ يَفْهَمَ مَدْلُولَ النُّصُوصِ وَالْمُقَرَّرَاتِ الَّتِي تُنْشِئُهَا - إِنَّنِي لَا أَجِدُ هَذَا فِي مُقَرَّرَاتِي ، أَوْ فِي عِلْمِي ، أَوْ فِي تَجَارِبِي . . فَكُلُّ مَا يَبْلُغُهُ الْعَقْلُ فِي هَذَا مُعَرَّضٌ لِلْخَطَأِ وَالصَّوَابِ . وَمَا قَرَّرَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الْحَقَّ وَالصَّوَابَ .
وَإِذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=278يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=279فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تَظْلِمُونَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=33وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ... ..
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=31وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ.. .. إِلَى آخِرِ مَا قَالَ فِي شَأْنِ مَنْهَجِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ فَالْحَقُّ هُوَ مَا قَالَ - سُبْحَانَهُ - وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ أَنْ يَقُولَ : وَلَكِنَّنِي أَرَى الْمُصْلِحَةَ فِي كَذَا وَكَذَا مِمَّا يُخَالِفُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ ، أَوْ فِيمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ لِلنَّاسِ . . فَمَا يَرَاهُ الْعَقْلُ مَصْلَحَةً يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ ، وَتَدْفَعُ إِلَيْهِ الشَّهَوَاتُ وَالنَّزَوَاتُ . . وَمَا يُقَرِّرُهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا الصِّحَّةَ وَالصَّلَاحَ . .
وَمَا قَرَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالتَّصَوُّرَاتِ ، أَوْ مِنْ مَنْهَجِ الْحَيَاةِ وَنِظَامِهَا ، سَوَاءٌ فِي مَوْقِفِ الْعَقْلِ إِزَاءَهُ . . مَتَى صَحَّ النَّصُّ ، وَكَانَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ ; وَلَمْ يُوَقَّتْ بِوَقْتٍ . . فَلَيْسَ لِلْعَقْلِ أَنْ يَقُولَ : آخُذُ فِي الْعَقَائِدِ وَالشَّعَائِرِ التَّعَبُّدِيَّةِ ; وَلَكِنِّي أَرَى أَنَّ الزَّمَنَ قَدْ تَغَيَّرَ فِي مَنْهَجِ الْحَيَاةِ وَنِظَامِهَا . . فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوَقِّتَ مَفْعُولَ النُّصُوصِ لَوَقَّتَهُ . فَمَا دَامَ النَّصُّ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ يَسْتَوِي زَمَانُ نُزُولِهِ وَآخِرُ الزَّمَانِ . . احْتِرَازًا مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ ، وَرَمْيِ عِلْمِهِ بِالنَّقْصِ وَالْقُصُورِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - إِنَّمَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي تَطْبِيقِ النَّصِّ الْعَامِّ عَلَى الْحَالَةِ الْجُزْئِيَّةِ ; لَا فِي قَبُولِ الْمَبْدَأِ الْعَامِّ أَوْ رَفْضِهِ ، تَحْتَ أَيِّ مَقُولَةٍ مِنْ مَقُولَاتِ الْعَقْلِ فِي جِيلٍ مِنَ الْأَجْيَالِ !
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الَّذِي نُقَرِّرُهُ انْتِقَاصٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَقْلِ وَدَوْرِهِ فِي الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ . . فَإِنَّ الْمَدَى أَمَامَهُ وَاسِعٌ فِي تَطْبِيقِ النُّصُوصِ عَلَى الْحَالَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ - بَعْدَ أَنْ يَنْضَبِطَ هُوَ بِمَنْهَجِ النَّظَرِ وَمَوَازِينِهِ الْمُسْتَقَاةِ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَتَعْلِيمِهِ الصَّحِيحِ - وَالْمَدَى أَمَامَهُ أَوْسَعُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِطَبِيعَةِ هَذَا الْكَوْنِ وَطَاقَاتِهِ وَقُوَاهُ وَمُدَّخَرَاتِهِ ; وَطَبِيعَةِ الْكَائِنَاتِ فِيهِ وَالْأَحْيَاءِ ; وَالِانْتِفَاعِ بِمَا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ وَمِنْ هَذِهِ الْكَائِنَاتِ وَالْأَحْيَاءِ ; وَتَنْمِيَةِ الْحَيَاةِ وَتَطْوِيرِهَا وَتَرْقِيَتِهَا - فِي حُدُودِ مَنْهَجِ اللَّهِ - لَا كَمَا تَبْتَغِي الشَّهَوَاتُ وَالْأَهْوَاءُ الَّتِي تُضِلُّ الْعَقْلَ وَتُغَطِّي الْفِطْرَةَ بِالرُّكَامِ ! .
وَنَقِفُ مِنْ هَذِهِ اللَّفْتَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَقْفَةً أُخْرَى :
[ ص: 809 ] نَقِفُ مِنْهَا أَمَامَ التَّبِعَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُلْقَاةِ عَلَى الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرِسَالَاتِهِمْ تِجَاهَ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا . . وَهِيَ تَبِعَةٌ ثَقِيلَةٌ بِمِقْدَارِ مَا هِيَ عَظِيمَةٌ . .
إِنَّ مَصَائِرَ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ سَوَاءٌ ، مَنُوطَةٌ بِالرُّسُلِ وَبِأَتْبَاعِهِمْ مِنْ بَعْدِهِمْ . فَعَلَى أَسَاسِ تَبْلِيغِهِمْ هَذَا الْأَمْرَ لِلْبَشَرِ ، تَقُومُ سَعَادَةُ هَؤُلَاءِ الْبَشَرِ أَوْ شِقْوَتُهُمْ ، وَيَتَرَتَّبُ ثَوَابُهُمْ أَوْ عِقَابُهُمْ . . فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
إِنَّهُ أَمْرٌ هَائِلٌ عَظِيمٌ . . وَلَكِنَّهُ كَذَلِكَ . . وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الرُّسُلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُحِسُّونَ بِجَسَامَةِ مَا يُكَلَّفُونَ . وَكَانَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - يُبَصِّرُهُمْ بِحَقِيقَةِ الْعِبْءِ الَّذِي يَنُوطُهُ بِهِمْ . . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ عَنْهُ لِنَبِيِّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=5إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا . . وَيُعَلِّمُهُ كَيْفَ يَتَهَيَّأُ لَهُ وَيَسْتَعِدُّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=1يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=2قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=3نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=4أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=5 .. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=23إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلا nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=24فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=25وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=26وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا .. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَشْعُرُ بِهِ نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُولَ وَأَنْ يَسْتَشْعِرَ حَقِيقَةَ مَا يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=22قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنَ دُونِهِ مُلْتَحَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=23إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=26عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=27إِلا مَنِ ارْتَضَى مَنِ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مَنِ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=28لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ. وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ..
إِنَّهُ الْأَمْرُ الْهَائِلُ الْعَظِيمُ . . أَمْرُ رِقَابِ النَّاسِ . . أَمْرُ حَيَاتِهِمْ وَمَمَاتِهِمْ . . أَمْرُ سَعَادَتِهِمْ وَشَقَائِهِمْ . . أَمْرُ ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ . . أَمْرُ هَذِهِ الْبَشَرِيَّةِ ، الَّتِي إِمَّا أَنْ تَبْلُغَ إِلَيْهَا الرِّسَالَةُ فَتَقْبَلَهَا وَتَتَّبِعَهَا فَتَسْعَدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَإِمَّا أَنْ تَبْلُغَ إِلَيْهَا فَتَرْفُضَهَا وَتَنْبِذَهَا فَتَشْقَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَإِمَّا أَلَّا تَبْلُغَ إِلَيْهَا فَتَكُونَ لَهَا حُجَّةٌ عَلَى رَبِّهَا ، وَتَكُونَ تَبِعَةُ شَقَائِهَا فِي الدُّنْيَا وَضَلَالِهَا مُعَلَّقَةً بِعُنُقِ مَنْ كُلِّفَ التَّبْلِيغَ فَلَمْ يُبَلِّغْ !
فَأَمَّا رُسُلُ اللَّهِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَدْ أَدَّوُا الْأَمَانَةَ وَبَلَّغُوا الرِّسَالَةَ ، وَمَضَوْا إِلَى رَبِّهِمْ خَالِصِينَ مِنْ هَذَا الِالْتِزَامِ الثَّقِيلِ . . وَهُمْ لَمْ يُبَلِّغُوهَا دَعْوَةً بِاللِّسَانِ ، وَلَكِنْ بَلَّغُوهَا - مَعَ هَذَا - قُدْوَةً مُمَثِّلَةً فِي الْعَمَلِ ، وَجِهَادًا مُضْنِيًا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِإِزَالَةِ الْعَقَبَاتِ وَالْعَوَائِقِ . . سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْعَقَبَاتُ وَالْعَوَائِقُ شُبَهَاتٍ تُحَاكُ ، وَضَلَالَاتٌ تُزَيَّنُ ، أَوْ كَانَتْ قُوًى طَاغِيَةً تَصُدُّ النَّاسَ عَنِ الدَّعْوَةِ وَتَفْتِنُهُمْ فِي الدِّينِ . كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ . بِمَا أَنَّهُ الْمُبَلِّغُ الْأَخِيرُ . وَبِمَا أَنَّ رِسَالَتَهُ هِيَ خَاتِمَةُ الرِّسَالَاتِ . فَلَمْ يَكْتَفِ بِإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ بِاللِّسَانِ . إِنَّمَا أَزَالَهَا كَذَلِكَ بِالسِّنَانِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=193حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ . .
وَبَقِيَ الْوَاجِبُ الثَّقِيلُ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ . . عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرِسَالَتِهِ . . فَهُنَاكَ أَجْيَالٌ وَرَاءَ أَجْيَالٍ جَاءَتْ وَتَجِيءُ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبْلِيغُ هَذِهِ الْأَجْيَالِ مَنُوطٌ - بَعْدَهُ - بِأَتْبَاعِهِ . وَلَا فِكَاكَ لَهُمْ مِنَ التَّبِعَةِ الثَّقِيلَةِ - تَبِعَةِ إِقَامَةِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ وَتَبِعَةِ اسْتِنْقَاذِ النَّاسِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَشِقْوَةِ الدُّنْيَا - إِلَّا بِالتَّبْلِيغِ وَالْأَدَاءِ . . عَلَى ذَاتِ الْمَنْهَجِ الَّذِي بَلَّغَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدَّى . . فَالرِّسَالَةُ هِيَ الرِّسَالَةُ ; وَالنَّاسُ هُمُ النَّاسُ . . وَهُنَاكَ ضَلَالَاتٌ وَأَهْوَاءٌ وَشُبَهَاتٌ وَشَهَوَاتٌ . . وَهُنَاكَ قُوًى عَاتِيَةٌ طَاغِيَةٌ تَقُومُ دُونَ النَّاسِ وَدُونَ الدَّعْوَةِ ; وَتَفْتِنُهُمْ كَذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ بِالتَّضْلِيلِ وَبِالْقُوَّةِ . . الْمَوْقِفُ هُوَ الْمَوْقِفُ ; وَالْعَقَبَاتُ هِيَ الْعَقَبَاتُ ، وَالنَّاسُ هُمُ النَّاسُ .
وَلَا بُدَّ مِنْ بَلَاغٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاءٍ . بَلَاغٌ بِالْبَيَانِ . وَبَلَاغٌ بِالْعَمَلِ حَتَّى يَكُونَ الْمُبَلِّغُونَ تَرْجَمَةً حَيَّةً وَاقِعَةً مِمَّا يُبَلِّغُونَ . وَبَلَاغٌ بِإِزَالَةِ الْعَقَبَاتِ الَّتِي تَعْتَرِضُ طَرِيقَ الدَّعْوَةِ ; وَتَفْتِنُ النَّاسَ بِالْبَاطِلِ وَبِالْقُوَّةِ . . وَإِلَّا فَلَا بَلَاغَ وَلَا أَدَاءَ . .
[ ص: 810 ] إِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَفْرُوضُ الَّذِي لَا حِيلَةَ فِي النُّكُوصِ عَنْ حَمْلِهِ . . وَإِلَّا فَهِيَ التَّبِعَةُ الثَّقِيلَةُ . تَبِعَةُ ضَلَالِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا ; وَشِقْوَتِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ، وَعَدَمِ قِيَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ ! وَحَمْلِ التَّبِعَةِ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَعَدَمِ النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ . .
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَهِينُ بِهَذِهِ التَّبِعَةِ ؟ وَهِيَ تَبِعَةٌ تَقْصِمُ الظَّهْرَ وَتُرْعِدُ الْفَرَائِصَ وَتَهُزُّ الْمَفَاصِلَ ؟ ! إِنَّ الَّذِي يَقُولُ : إِنَّهُ "مُسْلِمٌ " إِمَّا أَنْ يُبَلِّغَ وَيُؤَدِّيَ هَكَذَا . وَإِلَّا فَلَا نَجَاةَ لَهُ فِي دُنْيَا وَلَا فِي أُخْرَى . . إِنَّهُ حِينَ يَقُولُ : إِنَّهُ "مُسْلِمٌ " ثُمَّ لَا يُبَلِّغُ وَلَا يُؤَدِّي . . كُلَّ أَلْوَانِ الْبَلَاغِ وَالْأَدَاءِ هَذِهِ ، إِنَّمَا يُؤَدِّي شَهَادَةً ضِدَّ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدَّعِيهِ ! بَدَلًا مِنْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ لَهُ ، تَحَقَّقَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .
وَتَبْدَأُ شَهَادَتُهُ لِلْإِسْلَامِ ، مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ بِذَاتِهِ . ثُمَّ بِبَيْتِهِ وَعَائِلَتِهِ . ثُمَّ بِأُسْرَتِهِ وَعَشِيرَتِهِ ، صُورَةً وَاقِعِيَّةً مِنَ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ . . وَتَخْطُو شَهَادَتُهُ الْخَطْوَةَ الثَّانِيَةَ بِقِيَامِهِ بِدَعْوَةِ الْأُمَّةِ - بَعْدَ دَعْوَةِ الْبَيْتِ وَالْأُسْرَةِ وَالْعَشِيرَةِ - إِلَى تَحْقِيقِ الْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهَا كُلِّهَا . . الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ . . وَتَنْتَهِي شَهَادَتُهُ بِالْجِهَادِ لِإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ الَّتِي تُضِلُّ النَّاسَ وَتَفْتِنُهُمْ مِنْ أَيِّ لَوْنٍ كَانَتْ هَذِهِ الْعَوَائِقُ . . فَإِذِ اسْتُشْهِدَ فِي هَذَا فَهُوَ إِذَنْ "شَهِيدٌ " أَدَّى شَهَادَتَهُ لِدِينِهِ ، وَمَضَى إِلَى رَبِّهِ . . وَهَذَا وَحْدَهُ هُوَ "الشَّهِيدُ " .