[ ص: 834 ] بسم الله الرحمن الرحيم
أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله .وهو في الآخرة من الخاسرين اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [ ص: 835 ] ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . .
إنه لا بد من ضوابط للحياة . . حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه ; وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة . . الناس من الأقربين والأبعدين ، من الأهل والعشيرة ، ومن الجماعة والأمة ، ومن الأصدقاء والأعداء . . والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر . . والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض . . ثم . . حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة .
والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس . يقيمها ويحددها بدقة ووضوح ; ويربطها كلها بالله سبحانه ; ويكفل لها الاحترام الواجب ، فلا تنتهك ، ولا يستهزأ بها ; ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة ; ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد ، أو تراها مجموعة أو تراها أمة ، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط . . فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي "المصلحة " ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس . . هي المصلحة ولو رأى فرد ، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها !
فالله يعلم والناس لا يعلمون ! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون ! وأدنى مراتب الأدب مع الله - سبحانه - أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله . أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله . وألا يكون له مع تقدير الله ، إلا الطاعة والقبول والاستسلام ، مع الرضى والثقة والاطمئنان . .
هذه الضوابط يسميها الله "العقود " . . ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود . .
وافتتاح هذه السورة ، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح . وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية . وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة . وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية . وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل . وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها ، والحكم فيها بما أنزل الله كله ; والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله ; والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن . . بالأمر بالوفاء بالعقود
افتتاح السورة على هذا النحو ، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة "العقود " معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة . ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله . . [ ص: 836 ] وفي أولها عقد الإيمان بالله ; ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه ، ومقتضى العبودية لألوهيته . . هذا العقد الذي تنبثق منه ، وتقوم عليه سائر العقود ; وسائر الضوابط في الحياة .
وعقد الإيمان بالله ; والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته ; ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة ، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق . . هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم - عليه السلام - وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض ، بشرط وعقد هذا نصه القرآني : قلنا: اهبطوا منها جميعا. فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .. فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله ; وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك . المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله ، باطلا بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف ! وتحتم على كل مؤمن بالله ، يريد الوفاء بعقد الله ، أن يرد هذا الباطل ، ولا يعترف به ولا يقبل التعامل على أساسه . وإلا فما أوفى بعقد الله .
ولقد تكرر هذا العقد - أو هذا العهد - مع ذرية آدم . وهم بعد في ظهور آبائهم . كما ورد في السورة الأخرى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم. أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟ . . فهذا عقد آخر مع كل فرد ; عقد يقرر الله - سبحانه - أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم . . وليس لنا أن نسأل : كيف ؟ لأن الله أعلم بخلقه ; وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم . بما يلزمهم الحجة . وهو يقول : إنه أخذ عليهم هذا العهد ، على ربوبيته لهم . . فلا بد أن ذلك كان ، كما قال الله سبحانه . . فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء !
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل - كما سيجيء في السورة - يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم . . وسنعلم - من السياق - كيف لم يفوا بالميثاق ; وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق . والذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد تعاقدوا مع الله - على يديه - تعاقدا عاما على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله .
وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام . . ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار . . وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو "بيعة الرضوان " .
وعلى عقد الإيمان بالله ، والعبودية لله ، تقوم سائر العقود . . سواء ما يختص منها بكل أمر وكل نهي في شريعة الله ، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله ; فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا ، بصفتهم هذه ، أن يوفوا بها . إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء ، مستحثة لهم كذلك على الوفاء . . ومن ثم كان هذا النداء :
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . .