ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول . . ومنها هذا التقرير :
قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. إن أتبع إلا ما يوحى إلي. قل: هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون . .
إنه - صلى الله عليه وسلم - يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشرا مجردا من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة . وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء . . لا ثراء . ولا ادعاء . . إنها عقيدة يحملها رسول ، لا يملك إلا هداية الله ، تنير له الطريق !
ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم . . إنه لا يقعد على خزائن الله ، ليغدق منها على من يتبعه ، ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن ; ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكا . . إنما هو بشر رسول ; وإنما هي هذه العقيدة وحدها ، في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة . .
إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة ، وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة ، وإلى الله . فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف . . من أرادها لذاتها فهو بها حقيق ، وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة . ومن أرادها سلعة في سوق المنافع ، فهو لا يدرك طبيعتها ، ولا يعرف قيمتها ، وهي لا تمنحه زادا ، ولا غناء . .
لذلك كله يؤمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقدمها للناس هكذا ، عاطلة من كل زخرف ، لأنها غنية عن كل زخرف ; وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال ، ولا إلى وجاهة دنيا ، ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى . إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى .
قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي . .
ثم ليعلموا أنهم حينئذ إنما يفيئون إلى النور والبصيرة ، ويخرجون من الظلام والعماء :
قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟ . .
ثم . . إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر ، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى . . هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة . . فما شأن العقل البشري في هذا المجال ؟
سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط . . إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي ، وإدراك مدلولاته . . وهذه وظيفته . . ثم هذه هي فرصته في النور والهداية ; وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي ، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف ، وسوء الرؤية ، ونقص الرؤية ، وسوء التقدير ، وسوء التدبير .
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدا . تجربة بعد تجربة ، وحادثة [ ص: 1098 ] بعد حادثة ، وصورة بعد صورة . . حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة ، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاما ، ويضع على أساسها نظاما ، ملحوظا فيه الشمول والتوازن . . ومن ثم يظل - حين ينعزل عن منهج الله وهداه - يرتاد التجارب ، ويغير الأحكام ، ويبدل النظام ، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل ، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال . . وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة ، وأجهزة إنسانية كريمة . . ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله ; وجعل التجارب والتقلبات في "الأشياء " وفي "المادة " وفي "الأجهزة " وفي "الآلات " . . وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه . والخسارة في النهاية مواد وأشياء . لا أنفس وأرواح !
ويتعرض لهذا كله - بعد طبيعة تركيبه - بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات ، لا بد لها من ضابط ، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها ، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها ! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده ; فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات - وهي شتى - من ضابط آخر يضبطه هو ذاته ; ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا ، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة ، وكل حكم - في مجال الحياة البشرية - ليقوم به تجربته وحكمه ، وليضبط به اتجاهه وحركته .
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي ، باعتبار أن كليهما - العقل والوحي - من صنع الله فلا بد أن يتطابقا . . هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر ، ولم يقل بها الله سبحانه !
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي - حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر - إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله . . فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة ، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري ، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به . لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل ، وأن الفطرة وحدها تنحرف . وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة ، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي ، وهو النور والبصيرة .
والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين أو أن العلم - وهو من منتجات العقل - يغني البشرية عن هدى الله ; إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك . . فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم ، هي أبأس حياة يشقى فيها "الإنسان " مهما فتحت عليه أبواب كل شيء ; ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد ; ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق . . وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية ! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون ! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي ، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات . ثم يقيم له الأسس ، ويضع له القواعد ، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة ، كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها - وفق شريعة الله - فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك ! [ ص: 1099 ] والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير ، وبترك وحي الله وهداه أعمى ، واقتران الحديث عن تلقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الوحي وحده ، بالإشارة إلى العمى والبصر ، بالسؤال التحضيضي على التفكير :
إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل: هل يستوي الأعمى والبصير: أفلا تتفكرون؟ . .
اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق ، أمر ذو دلالة في التعبير القرآني . . فالتفكر مطلوب ، والحض عليه منهج قرآني ; ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي ، الذي يمضي معه مبصرا في النور ; لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى ، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير . .
والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق ، إنما يتحرك في مجال واسع جدا . . يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله ، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضا ; كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث ، ومجالات الحياة جميعا . . فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج ، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات ! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعا . فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان . . العقل . . إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني . . فلا تضل إذن ولا تطغى . .