بعد ذلك يعرض السياق موكب الإيمان الجليل ، يقوده ذلك الرهط الكريم من الرسل : من
نوح إلى
إبراهيم إلى خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - يعرض السياق هذا الموكب ممتدا موصولا - وبخاصة منذ
إبراهيم وبنيه من النبيين - ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض - كما يلاحظ في مواضع أخرى - لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته ، لا تسلسله التاريخي :
nindex.php?page=treesubj&link=28977_19881_31787_31827_31848_31851_31891_31895_31903_31908_31954_31955_31971_33975_34163_34169_34274nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84ووهبنا له إسحاق ويعقوب - كلا هدينا - ونوحا هدينا من قبل - ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون.. وكذلك نجزي المحسنين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=85وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس.. كل من الصالحين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=86وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا.. وكلا فضلنا على العالمين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم.. واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=88ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=89أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة. فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده، قل: لا أسألكم عليه أجرا. إن هو إلا ذكرى للعالمين . .
[ ص: 1144 ] وفي الآيات ذكر لسبعة عشر نبيا رسولا - غير
نوح وإبراهيم - وإشارة إلى آخرين من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم . . والتعقيبات على هذا الموكب :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84وكذلك نجزي المحسنين ..
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=86وكلا فضلنا على العالمين ..
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم . .
. . وكلها تعقيبات تقرر إحسان هذا الرهط الكريم واصطفاءه من الله ، وهدايته إلى الطريق المستقيم .
وذكر هذا الرهط على هذا النحو ، واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة ، كله تمهيد للتقريرات التي تليه :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=88ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون . .
وهذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض . فهدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل . وينحصر المستيقن منه ، والذي يجب اتباعه ، في هذا المصدر الواحد ، الذي يقرر الله - سبحانه - أنه هو هدى الله ; وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده . . ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله ، وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه هداه ، وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي ، فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم : أي أن يذهب ضياعا ، ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتا مسموما فتنتفخ ثم تموت . . وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط !
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=89أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة. فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين . .
وهذا هو التقرير الثاني . . فقرر في الأول مصدر الهدى ، وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل . وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم ، هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة - "والحكم " يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية . فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع
موسى ، والزبور مع
داود ، والإنجيل مع
عيسى . وبعضهم آتاه الله الحكم
كداود وسليمان وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله ، وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور . فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا ، وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط ، كما جاء في الآيات الأخرى . وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة . . وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه ، يحملونه إلى الناس ، ويقومون عليه ، ويؤمنون به ويحفظونه . . فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو
العرب : "هؤلاء " فإن دين الله غني عنهم ; وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين ! . . إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها ، وموكب موصول تماسكت حلقاته ; ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول ; وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية ; بما يعلمه من استحقاقه للهداية ! . . وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن ، وفي قلوب العصبة المسلمة - أيا كان عددها - إن هذه العصبة ليست وحدها . ليست مقطوعة من شجرة ! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وحلقة في موكب جليل موصول ، موصولة أسبابه بالله وهداه . . إن المؤمن الفرد ، في أي أرض وفي أي جيل ، قوي قوي ، وكبير كبير ، إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الإنساني ، وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده. قل: لا أسألكم عليه أجرا. إن هو إلا ذكرى للعالمين . .
وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان ، هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي
[ ص: 1145 ] يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه ، وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلا لمن يدعوهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين . . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . . إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله !
ثم يمضي
nindex.php?page=treesubj&link=32424_29434_30172السياق يندد بمنكري النبوات والرسالات ، ويصمهم بأنهم لا يقدرون الله قدره ، ولا يعرفون حكمة الله ورحمته وعدله . ويقرر أن الرسالة الأخيرة إنما تجري على سنة الرسالات قبلها ; وأن الكتاب الأخير مصدق لما بين يديه من الكتب . . مما يتفق مع ظل الموكب الذي سبق عرضه ويتناسق :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. قل: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس - تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا - وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم؟ قل: الله. ثم ذرهم في خوضهم يلعبون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=92وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون . .
لقد كان المشركون في معرض العناد واللجاج يقولون : إن الله لم يرسل رسولا من البشر ; ولم ينزل كتابا يوحي به إلى بشر . بينما كان إلى جوارهم في
الجزيرة أهل الكتاب من اليهود ; ولم يكونوا ينكرون عليهم أنهم أهل كتاب، ولا أن الله أنزل التوراة على
موسى - عليه السلام - إنما هم كانوا يقولون ذلك القول في زحمة العناد واللجاج ، ليكذبوا برسالة
محمد - صلى الله عليه وسلم - لذلك يواجههم القرآن الكريم بالتنديد بقولتهم : ما أنزل الله على بشر من شيء ; كما يواجههم بالكتاب الذي جاء به
موسى من قبل :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء . .
وهذا القول الذي كان يقوله مشركو
مكة في جاهليتهم ، يقوله أمثالهم في كل زمان ; ومنهم الذين يقولونه الآن ; ممن يزعمون أن الأديان من صنع البشر ; وأنها تطورت وترقت بتطور البشر وترقيهم . لا يفرقون في هذا بين ديانات هي من تصورات البشر أنفسهم ، كالوثنيات كلها قديما وحديثا ، ترتقي وتنحط بارتقاء أصحابها وانحطاطهم ، ولكنها تظل خارج دين الله كله . وبين ديانات جاء بها الرسل من عند الله ، وهي ثابتة على أصولها الأولى ; جاء بها كل رسول ; فتقبلتها فئة وعتت عنها فئة ; ثم وقع الانحراف عنها والتحريف فيها ، فعاد الناس إلى جاهليتهم في انتظار رسول جديد ، بذات الدين الواحد الموصول .
وهذا القول يقوله - قديما أو حديثا - من لا يقدر الله حق قدره ; ومن لا يعرف كرم الله وفضله ، ورحمته وعدله . . إنهم يقولون : إن الله لا يرسل من البشر رسولا ولو شاء لأنزل ملائكة ! كما كان
العرب يقولون . أو يقولون : إن خالق هذا الكون الهائل لا يمكن أن يعني بالإنسان "الضئيل " في هذه الذرة الفلكية التي اسمها الأرض ! بحيث يرسل له الرسل ; وينزل على الرسل الكتب لهداية هذا المخلوق الصغير في هذا الكوكب الصغير ! وذلك كما يقول بعض الفلاسفة في القديم والحديث ! أو يقولون : إنه ليس هناك من إله ولا من وحي ولا من رسل . . إنما هي أوهام الناس أو خداع بعضهم لبعض باسم الدين ! كما يقول الماديون الملحدون !
وكله جهل بقدر الله - سبحانه - فالله الكريم العظيم العادل الرحيم ، العليم الحكيم . . . لا يدع هذا الكائن الإنساني وحده ، وهو خلقه ، وهو يعلم سره وجهره ، وطاقاته وقواه ، ونقصه وضعفه ، وحاجته إلى الموازين القسط التي يرجع إليها بتصوراته وأفكاره ، وأقواله وأعماله ، وأوضاعه ونظامه ، ليرى إن كانت صوابا وصلاحا ، أو كانت خطأ وفسادا . . ويعلم - سبحانه - أن العقل الذي أعطاه له ، يتعرض لضغوط كثيرة
[ ص: 1146 ] من شهواته ونزواته ومطامعه ورغباته ، فضلا على أنه موكل بطاقات الأرض التي له عليها سلطان بسبب تسخيرها له من الله ، وليس موكلا بتصور الوجود تصورا مطلقا ، ولا بصياغة الأسس الثابتة للحياة . فهذا مجال العقيدة التي تأتي له من الله ; فتنشئ له تصورا سليما للوجود والحياة . . ومن ثم لا يكله الله إلى هذا العقل وحده ، ولا يكله كذلك إلى ما أودع فطرته من معرفة لدنية بربها الحق ، وشوق إليه ، ولياذ به في الشدائد . . فهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية ، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس ، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير . . إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه ، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها ، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها ، وليجلو عنهم غاشية التضليل من داخل أنفسهم ومن خارجها . . وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله ، ورحمته وعدله ، وحكمته وعلمه . . فما كان ليخلق البشر ، ثم يتركهم سدى . . ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . . فتقدير الله حق قدره يقتضي الاعتقاد بأنه أرسل إلى عباده رسلا يستنقذون فطرتهم من الركام ، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط ، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق . وأنه أوحى إلى هؤلاء الرسل منهج الدعوة إلى الله ، وأنزل على بعضهم كتبا تبقى بعدهم في قومهم إلى حين - ككتب
موسى وداود وعيسى - أو تبقى إلى آخر الزمان كهذا القرآن .
ولما كانت رسالة
موسى معروفة بين
العرب في
الجزيرة ، وكان أهل الكتاب معروفين هناك ، فقد أمر الله رسوله أن يواجه المشركين المنكرين لأصل الرسالة والوحي بتلك الحقيقة :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قل: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس - تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا - وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم . .
وقد عرضنا في تقديم السورة للقول بأن هذه الآية مدنية ، وأن المخاطبين بها هم اليهود . ثم ذكرنا هناك ما اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري من القراءة الأخرى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا . . وأن المخاطبين بها هم المشركون ، وهذا خبر عن اليهود بما كان واقعا منهم من جعل التوراة في صحائف يتلاعبون بها ، فيبدون منها للناس ما يتفق مع خطتهم في التضليل والخداع ، والتلاعب بالأحكام والفرائض ; ويخفون ما لا يتفق مع هذه الخطة من صحائف التوراة ! مما كان
العرب يعلمون بعضه وما أخبرهم الله به في هذا القرآن من فعل اليهود . . فهذا خبر عن اليهود معترض في سياق الآية لا خطابا لهم . . والآية على هذا مكية لا مدنية . . ونحن نختار ما اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير .
فقل لهم يا
محمد : من أنزل الكتاب الذي جاء به
موسى نورا وهدى للناس ، مما يجعله اليهود صحائف يخفون بعضها ويظهرون بعضها قضاء للباناتهم من وراء هذا التلاعب الكريه ! كذلك واجههم بأن الله علمهم بما يقص عليهم من الحقائق والأخبار ما لم يكونوا يعلمون فكان حقا عليهم أن يشكروا فضل الله ، ولا ينكروا أصله بإنكار أن الله نزل هذا العلم على رسوله وأوحى به إليه .
ولم يترك لهم أن يجيبوا على ذلك السؤال . إنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحسم القول معهم في هذا الشأن ; وألا يجعله مجالا لجدل لا يثيره إلا اللجاج :
[ ص: 1147 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قل: الله. ثم ذرهم في خوضهم يلعبون . .
قل : الله أنزله . . ثم لا تحفل جدالهم ولجاجهم ومراءهم ، ودعهم يخوضون لاهين لاعبين . وفي هذا من التهديد ، قدر ما فيه من الاستهانة ، قدر ما فيه من الحق والجد ; فحين يبلغ العبث أن يقول الناس مثل ذلك الكلام ، يحسن احترام القول وحسم الجدل وتوفير الكلام !
بَعْدَ ذَلِكَ يَعْرِضُ السِّيَاقُ مَوْكِبَ الْإِيمَانِ الْجَلِيلِ ، يَقُودُهُ ذَلِكَ الرَّهْطُ الْكَرِيمُ مِنَ الرُّسُلِ : مِنْ
نُوحِ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ إِلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - يَعْرِضُ السِّيَاقُ هَذَا الْمَوْكِبَ مُمْتَدًّا مَوْصُولًا - وَبِخَاصَّةٍ مُنْذُ
إِبْرَاهِيمَ وَبَنِيهِ مِنَ النَّبِيِّينَ - وَلَا يُرَاعِي التَّسَلْسُلَ التَّارِيخِيَّ فِي هَذَا الْعَرْضِ - كَمَا يُلَاحَظُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى - لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ الْمَوْكِبُ بِجُمْلَتِهِ ، لَا تَسَلْسُلُهُ التَّارِيخِيُّ :
nindex.php?page=treesubj&link=28977_19881_31787_31827_31848_31851_31891_31895_31903_31908_31954_31955_31971_33975_34163_34169_34274nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ - كُلا هَدَيْنَا - وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ - وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ.. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=85وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ.. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=86وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا.. وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ.. وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=88ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مَنْ عِبَادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=89أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، قُلْ: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا. إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ . .
[ ص: 1144 ] وَفِي الْآيَاتِ ذِكْرٌ لِسَبْعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا رَسُولًا - غَيْرَ
نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ - وَإِشَارَةٌ إِلَى آخَرِينَ مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ . . وَالتَّعْقِيبَاتُ عَلَى هَذَا الْمَوْكِبِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=84وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=86وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=87وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . .
. . وَكُلُّهَا تَعْقِيبَاتٌ تُقَرِّرُ إِحْسَانَ هَذَا الرَّهْطِ الْكَرِيمِ وَاصْطِفَاءَهُ مِنَ اللَّهِ ، وَهِدَايَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ .
وَذِكْرُ هَذَا الرَّهْطِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ ، وَاسْتِعْرَاضُ هَذَا الْمَوْكِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، كُلُّهُ تَمْهِيدٌ لِلتَّقْرِيرَاتِ الَّتِي تَلِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=88ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مَنْ عِبَادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . .
وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِيَنَابِيعِ الْهُدَى فِي هَذِهِ الْأَرْضِ . فَهُدَى اللَّهِ لِلْبَشَرِ يَتَمَثَّلُ فِيمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . وَيَنْحَصِرُ الْمُسْتَيْقَنُ مِنْهُ ، وَالَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ ، فِي هَذَا الْمَصْدَرِ الْوَاحِدِ ، الَّذِي يُقَرِّرُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهُ هُوَ هُدَى اللَّهِ ; وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يَخْتَارُ مِنْ عِبَادِهِ . . وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْعِبَادَ الْمَهْدِيِّينَ حَادُوا عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ ، وَتَوْحِيدِ الْمَصْدَرِ الَّذِي يَسْتَمِدُّونَ مِنْهُ هُدَاهُ ، وَأَشْرَكُوا بِاللَّهِ فِي الِاعْتِقَادِ أَوِ الْعِبَادَةِ أَوِ التَّلَقِّي ، فَإِنَّ مَصِيرَهُمْ أَنْ يُحْبِطَ عَنْهُمْ عَمَلَهُمْ : أَيْ أَنْ يَذْهَبُ ضَيَاعًا ، وَيَهْلَكُ كَمَا تَهْلَكُ الدَّابَّةُ الَّتِي تَرْعَى نَبْتًا مَسْمُومًا فَتَنْتَفِخُ ثُمَّ تَمُوتُ . . وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ اللُّغَوِيُّ لِلْحُبُوطِ !
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=89أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ . .
وَهَذَا هُوَ التَّقْرِيرُ الثَّانِي . . فَقَرَّرَ فِي الْأَوَّلِ مَصْدَرَ الْهُدَى ، وَقَصَرَهُ عَلَى هُدَى اللَّهِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ . وَقَرَّرَ فِي الثَّانِي أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ وَالَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ ، هُمُ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالسُّلْطَانَ وَالنُّبُوَّةَ - "وَالْحُكْمُ " يَجِيءُ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ كَمَا يَجِيءُ بِمَعْنَى السُّلْطَانِ كَذَلِكَ - وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُحْتَمَلٌ فِي الْآيَةِ . فَهَؤُلَاءِ الرُّسُلُ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَعْضِهِمُ الْكِتَابَ كَالتَّوْرَاةِ مَعَ
مُوسَى ، وَالزَّبُورِ مَعَ
دَاوُدَ ، وَالْإِنْجِيلِ مَعَ
عِيسَى . وَبَعْضُهُمْ آتَاهُ اللَّهُ الْحُكْمَ
كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَكُلُّهُمْ أُوتِيَ السُّلْطَانَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا مَعَهُ مِنَ الدِّينِ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ ، وَأَنَّ الدِّينَ الَّذِي جَاءُوا بِهِ يَحْمِلُ سُلْطَانَ اللَّهِ عَلَى النُّفُوسِ وَعَلَى الْأُمُورِ . فَمَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ إِلَّا لِيُطَاعُوا ، وَمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ إِلَّا لِيَحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْقِسْطِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى . وَكُلُّهُمْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَأُوتِيَ النُّبُوَّةَ . . وَأُولَئِكَ هُمُ الَّذِينَ وَكَلَهُمُ اللَّهُ بِدِينِهِ ، يَحْمِلُونَهُ إِلَى النَّاسِ ، وَيَقُومُونَ عَلَيْهِ ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَحْفَظُونَهُ . . فَإِذَا كَفَرَ بِالْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ مُشْرِكُو
الْعَرَبِ : "هَؤُلَاءِ " فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ غَنِيٌّ عَنْهُمْ ; وَهَؤُلَاءِ الرَّهْطُ الْكِرَامُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ هُمْ حَسْبُ هَذَا الدِّينِ ! . . إِنَّهَا حَقِيقَةٌ قَدِيمَةٌ امْتَدَّتْ شَجَرَتُهَا ، وَمَوْكِبٌ مَوْصُولٌ تَمَاسَكَتْ حَلَقَاتُهُ ; وَدَعْوَةٌ وَاحِدَةٌ حَمَلَهَا رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ ; وَآمَنَ بِهَا وَيُؤْمِنُ مَنْ يَقْسِمُ اللَّهُ لَهُ الْهِدَايَةَ ; بِمَا يَعْلَمُهُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْهِدَايَةِ ! . . وَهُوَ تَقْرِيرٌ يَسْكُبُ الطُّمَأْنِينَةَ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ ، وَفِي قُلُوبِ الْعُصْبَةِ الْمُسْلِمَةِ - أَيًّا كَانَ عَدَدُهَا - إِنَّ هَذِهِ الْعُصْبَةَ لَيْسَتْ وَحْدَهَا . لَيْسَتْ مَقْطُوعَةً مِنْ شَجَرَةٍ ! إِنَّهَا فَرْعٌ مُنْبَثِقٌ مِنْ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ، وَحَلْقَةٌ فِي مَوْكِبٍ جَلِيلٍ مَوْصُولٍ ، مَوْصُولَةٌ أَسْبَابُهُ بِاللَّهِ وَهُدَاهُ . . إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَرْدَ ، فِي أَيِّ أَرْضٍ وَفِي أَيِّ جِيلٍ ، قَوِيٌّ قَوِيٌّ ، وَكَبِيرٌ كَبِيرٌ ، إِنَّهُ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الْمَتِينَةِ السَّامِقَةِ الضَّارِبَةِ الْجُذُورِ فِي أَعْمَاقِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَفِي أَعْمَاقِ التَّارِيخِ الْإِنْسَانِيِّ ، وَعُضْوٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْكِبِ الْكَرِيمِ الْمَوْصُولِ بِاللَّهِ وَهُدَاهُ مُنْذُ أَقْدَمِ الْعُصُورِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ. قُلْ: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا. إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ . .
وَهُوَ التَّقْرِيرُ الثَّالِثُ . . فَهَؤُلَاءِ الرَّهْطُ الْكِرَامُ الَّذِينَ يَقُودُونَ مَوْكِبَ الْإِيمَانِ ، هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ . وَهُدَاهُمُ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ الْقُدْوَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ آمَنَ بِهِ . فَهَذَا الْهُدَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي
[ ص: 1145 ] يَسِيرُ عَلَيْهِ . وَهَذَا الْهُدَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَحْتَكِمُ إِلَيْهِ ، وَهَذَا الْهُدَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ وَيُبَشِّرُ بِهِ . . قَائِلًا لِمَنْ يَدْعُوهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ . . لِلْعَالَمِينَ . . لَا يَخْتَصُّ بِهِ قَوْمٌ وَلَا جِنْسٌ وَلَا قَرِيبٌ وَلَا بَعِيدٌ . . إِنَّهُ هُدَى اللَّهِ لِتَذْكِيرِ الْبَشَرِ كَافَّةً . وَمِنْ ثَمَّ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ يَتَقَاضَاهُ . وَإِنَّمَا أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ !
ثُمَّ يَمْضِي
nindex.php?page=treesubj&link=32424_29434_30172السِّيَاقُ يُنَدِّدُ بِمُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ وَالرِّسَالَاتِ ، وَيَصِمُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدُرُونَ اللَّهَ قَدْرَهُ ، وَلَا يَعْرِفُونَ حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَعَدَلَهُ . وَيُقَرِّرُ أَنَّ الرِّسَالَةَ الْأَخِيرَةَ إِنَّمَا تَجْرِي عَلَى سُنَّةِ الرِّسَالَاتِ قَبْلَهَا ; وَأَنَّ الْكِتَابَ الْأَخِيرَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ . . مِمَّا يَتَّفِقُ مَعَ ظِلِّ الْمَوْكِبِ الَّذِي سَبَقَ عَرْضُهُ وَيَتَنَاسَقُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. قُلْ: مِنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ - تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا - وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ؟ قُلْ: اللَّهَ. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=92وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . .
لَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي مَعْرِضِ الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ يَقُولُونَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا مِنَ الْبَشَرِ ; وَلَمْ يُنْزِلْ كِتَابًا يُوحِي بِهِ إِلَى بَشَرٍ . بَيْنَمَا كَانَ إِلَى جِوَارِهِمْ فِي
الْجَزِيرَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ ; وَلَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَلَا أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنَّمَا هُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْقَوْلَ فِي زَحْمَةِ الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ ، لِيُكَذِّبُوا بِرِسَالَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ يُوَاجِهُهُمُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِالتَّنْدِيدِ بِقَوْلَتِهِمْ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ; كَمَا يُوَاجِهُهُمْ بِالْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى مِنْ قَبْلُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ . .
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ مُشْرِكُو
مَكَّةَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ ، يَقُولُهُ أَمْثَالُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ ; وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَهُ الْآنَ ; مِمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَدْيَانَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ ; وَأَنَّهَا تَطَوَّرَتْ وَتَرَقَّتْ بِتَطَوُّرِ الْبَشَرِ وَتَرَقِّيهِمْ . لَا يُفَرِّقُونَ فِي هَذَا بَيْنَ دِيَانَاتٍ هِيَ مِنْ تَصَوُّرَاتِ الْبَشَرِ أَنْفُسِهِمْ ، كَالْوَثَنِيَّاتِ كُلِّهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، تَرْتَقِي وَتَنْحَطُّ بِارْتِقَاءِ أَصْحَابِهَا وَانْحِطَاطِهِمْ ، وَلَكِنَّهَا تَظَلُّ خَارِجَ دِينِ اللَّهِ كُلِّهِ . وَبَيْنَ دِيَانَاتٍ جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى أُصُولِهَا الْأُولَى ; جَاءَ بِهَا كُلُّ رَسُولٍ ; فَتَقَبَّلَتْهَا فِئَةٌ وَعَتَتْ عَنْهَا فِئَةٌ ; ثُمَّ وَقَعَ الِانْحِرَافُ عَنْهَا وَالتَّحْرِيفُ فِيهَا ، فَعَادَ النَّاسُ إِلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ فِي انْتِظَارِ رَسُولٍ جَدِيدٍ ، بِذَاتِ الدِّينِ الْوَاحِدِ الْمَوْصُولِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقُولُهُ - قَدِيمًا أَوْ حَدِيثًا - مَنْ لَا يَقْدُرُ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ; وَمَنْ لَا يَعْرِفُ كَرَمَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ ، وَرَحْمَتَهُ وَعَدْلَهُ . . إِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ مِنَ الْبَشَرِ رَسُولًا وَلَوْ شَاءَ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً ! كَمَا كَانَ
الْعَرَبُ يَقُولُونَ . أَوْ يَقُولُونَ : إِنَّ خَالِقَ هَذَا الْكَوْنِ الْهَائِلِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْنِيَ بِالْإِنْسَانِ "الضَّئِيلِ " فِي هَذِهِ الذَّرَّةِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي اسْمُهَا الْأَرْضُ ! بِحَيْثُ يُرْسِلُ لَهُ الرُّسُلَ ; وَيُنْزِلُ عَلَى الرُّسُلِ الْكُتُبَ لِهِدَايَةِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الصَّغِيرِ فِي هَذَا الْكَوْكَبِ الصَّغِيرِ ! وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ ! أَوْ يَقُولُونَ : إِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مِنْ إِلَهٍ وَلَا مِنْ وَحْيٍ وَلَا مِنْ رُسُلٍ . . إِنَّمَا هِيَ أَوْهَامُ النَّاسِ أَوْ خِدَاعُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِاسْمِ الدِّينِ ! كَمَا يَقُولُ الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ !
وَكُلُّهُ جَهْلٌ بِقَدَرِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فَاللَّهُ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الْعَادِلُ الرَّحِيمُ ، الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . . . لَا يَدَعُ هَذَا الْكَائِنَ الْإِنْسَانِيَّ وَحْدَهُ ، وَهُوَ خَلَقَهُ ، وَهُوَ يَعْلَمُ سِرَّهُ وَجَهْرَهُ ، وَطَاقَاتِهِ وَقُوَاهُ ، وَنَقْصَهُ وَضَعْفَهُ ، وَحَاجَتَهُ إِلَى الْمَوَازِينِ الْقِسْطِ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا بِتَصَوُّرَاتِهِ وَأَفْكَارِهِ ، وَأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ ، وَأَوْضَاعِهِ وَنِظَامِهِ ، لِيَرَى إِنْ كَانَتْ صَوَابًا وَصَلَاحًا ، أَوْ كَانَتْ خَطَأً وَفَسَادًا . . وَيَعْلَمُ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي أَعْطَاهُ لَهُ ، يَتَعَرَّضُ لِضُغُوطٍ كَثِيرَةٍ
[ ص: 1146 ] مِنْ شَهَوَاتِهِ وَنَزَوَاتِهِ وَمَطَامِعِهِ وَرَغَبَاتِهِ ، فَضْلًا عَلَى أَنَّهُ مُوكَّلٌ بِطَاقَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ بِسَبَبِ تَسْخِيرِهَا لَهُ مِنَ اللَّهِ ، وَلَيْسَ مُوَكَّلًا بِتَصَوُّرِ الْوُجُودِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا ، وَلَا بِصِيَاغَةِ الْأُسُسِ الثَّابِتَةِ لِلْحَيَاةِ . فَهَذَا مَجَالُ الْعَقِيدَةِ الَّتِي تَأْتِي لَهُ مِنَ اللَّهِ ; فَتُنْشِئُ لَهُ تَصَوُّرًا سَلِيمًا لِلْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ . . وَمِنْ ثَمَّ لَا يَكِلُهُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْعَقْلِ وَحْدَهُ ، وَلَا يَكِلُهُ كَذَلِكَ إِلَى مَا أَوْدَعَ فِطْرَتَهُ مِنْ مَعْرِفَةٍ لَدُنِيَّةٍ بِرَبِّهَا الْحَقِّ ، وَشَوْقٍ إِلَيْهِ ، وَلِيَاذٍ بِهِ فِي الشَّدَائِدِ . . فَهَذِهِ الْفِطْرَةُ قَدْ تَفْسُدُ كَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهَا مِنْ ضُغُوطٍ دَاخِلِيَّةٍ وَخَارِجِيَّةٍ ، وَبِسَبَبِ الْإِغْوَاءِ وَالِاسْتِهْوَاءِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ شَيَاطِينُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، بِكُلِّ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَجْهِزَةِ التَّوْجِيهِ وَالتَّأْثِيرِ . . إِنَّمَا يَكِلُ اللَّهُ النَّاسَ إِلَى وَحْيِهِ وَرُسُلِهِ وَهَدَاهُ وَكُتُبِهِ ، لِيَرُدَّ فِطْرَتَهُمْ إِلَى اسْتِقَامَتِهَا وَصَفَائِهَا ، وَلِيَرُدَّ عُقُولَهُمْ إِلَى صِحَّتِهَا وَسَلَامَتِهَا ، وَلِيَجْلُوَ عَنْهُمْ غَاشِيَةَ التَّضْلِيلِ مِنْ دَاخِلِ أَنْفُسِهِمْ وَمِنْ خَارِجِهَا . . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِكَرَمِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ ، وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ ، وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ . . فَمَا كَانَ لِيَخْلُقَ الْبَشَرَ ، ثُمَّ يَتْرُكُهُمْ سُدًى . . ثُمَّ يُحَاسِبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يَبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا . . فَتَقْدِيرُ اللَّهِ حَقَّ قَدْرِهِ يَقْتَضِي الِاعْتِقَادَ بِأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى عِبَادِهِ رُسُلًا يَسْتَنْقِذُونَ فِطْرَتَهُمْ مِنَ الرُّكَامِ ، وَيُسَاعِدُونَ عُقُولَهُمْ عَلَى الْخَلَاصِ مِنَ الضُّغُوطِ ، وَالِانْطِلَاقِ لِلنَّظَرِ الْخَالِصِ وَالتَّدَبُّرِ الْعَمِيقِ . وَأَنَّهُ أَوْحَى إِلَى هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ مَنْهَجَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ كُتُبًا تَبْقَى بَعْدَهُمْ فِي قَوْمِهِمْ إِلَى حِينٍ - كَكُتُبِ
مُوسَى وَدَاوُدَ وَعِيسَى - أَوْ تَبْقَى إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ كَهَذَا الْقُرْآنِ .
وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ
مُوسَى مَعْرُوفَةً بَيْنَ
الْعَرَبِ فِي
الْجَزِيرَةِ ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعْرُوفِينَ هُنَاكَ ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُوَاجِهَ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِأَصْلِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ بِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ - تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا - وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ . .
وَقَدْ عَرَّضْنَا فِي تَقْدِيمِ السُّورَةِ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ ، وَأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمُ الْيَهُودُ . ثُمَّ ذَكَرْنَا هُنَاكَ مَا اخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا . . وَأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنِ الْيَهُودِ بِمَا كَانَ وَاقِعًا مِنْهُمْ مِنْ جَعْلِ التَّوْرَاةِ فِي صَحَائِفَ يَتَلَاعَبُونَ بِهَا ، فَيُبْدُونَ مِنْهَا لِلنَّاسِ مَا يَتَّفِقُ مَعَ خُطَّتِهِمْ فِي التَّضْلِيلِ وَالْخِدَاعِ ، وَالتَّلَاعُبِ بِالْأَحْكَامِ وَالْفَرَائِضِ ; وَيُخْفُونَ مَا لَا يَتَّفِقُ مَعَ هَذِهِ الْخُطَّةِ مِنْ صَحَائِفِ التَّوْرَاةِ ! مِمَّا كَانَ
الْعَرَبُ يَعْلَمُونَ بَعْضَهُ وَمَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ . . فَهَذَا خَبَرٌ عَنِ الْيَهُودِ مُعْتَرِضٌ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ لَا خِطَابًا لَهُمْ . . وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَكِّيَّةٌ لَا مَدَنِيَّةٌ . . وَنَحْنُ نَخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ .
فَقُلْ لَهُمْ يَا
مُحَمَّدُ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، مِمَّا يَجْعَلُهُ الْيَهُودُ صَحَائِفَ يُخْفُونَ بَعْضَهَا وَيُظْهِرُونَ بَعْضَهَا قَضَاءً لِلِبَانَاتِهِمْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا التَّلَاعُبِ الْكَرِيهِ ! كَذَلِكَ وَاجِهْهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَّمَهُمْ بِمَا يَقُصُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقَائِقِ وَالْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ فَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوا فَضْلَ اللَّهِ ، وَلَا يُنْكِرُوا أَصْلَهُ بِإِنْكَارِ أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ هَذَا الْعِلْمَ عَلَى رَسُولِهِ وَأَوْحَى بِهِ إِلَيْهِ .
وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ . إِنَّمَا أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْسِمَ الْقَوْلَ مَعَهُمْ فِي هَذَا الشَّأْنِ ; وَأَلَّا يَجْعَلَهُ مَجَالًا لِجَدَلٍ لَا يُثِيرُهُ إِلَّا اللَّجَاجُ :
[ ص: 1147 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=91قُلِ: اللَّهُ. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ . .
قُلِ : اللَّهُ أَنْزَلَهُ . . ثُمَّ لَا تَحْفُلْ جِدَالَهُمْ وَلَجَاجَهُمْ وَمِرَاءَهُمْ ، وَدَعْهُمْ يَخُوضُونَ لَاهِينَ لَاعِبِينَ . وَفِي هَذَا مِنَ التَّهْدِيدِ ، قَدْرَ مَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهَانَةِ ، قَدْرَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْجِدِّ ; فَحِينَ يَبْلُغُ الْعَبَثُ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ ، يَحْسُنُ احْتِرَامُ الْقَوْلِ وَحَسْمُ الْجَدَلِ وَتَوْفِيرُ الْكَلَامِ !