والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة:
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار. احتضار الذين افتروا على الله الكذب، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام، أمرهم به الله، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع الله المستيقن - وآثروا الظن والخرص على اليقين والعلم. وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب:
nindex.php?page=treesubj&link=28978_18979_18981_27521_29706_29747_30523_30558_34101_34131nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته؟ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم، قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله؟ قالوا: ضلوا عنا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ..
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذبا أو كذبوا بآياته وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله؟ ..
أين دعاويكم التي افتريتم على الله؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة فلا تجدون لكم عاصما من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد، الذي لا معدى عنه، ولا مغالطة فيه:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37قالوا: ضلوا عنا ! غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقرا، ولا هم يسلكون إلينا طريقا! .. فما أضيع عبادا لا تهتدي إليهم آلهتهم، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ..
[ ص: 1290 ] وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عند ما جاءهم بأس الله في الدنيا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=5فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين ! فإذا انتهى مشهد الاحتضار، فنحن أمام المشهد التالي، وهؤلاء المحتضرون في النار! .. ويسكت السياق عما بينهما، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر. وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38قال: ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار، كلما دخلت أمة لعنت أختها، حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار. قال: لكل ضعف ولكن لا تعلمون. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل، فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون .
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار .
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس.. هنا في النار.. أليس إبليس هو الذي عصى ربه؟
وهو الذي أخرج
آدم من الجنة وزوجه؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار؟ .. فادخلوا إذن جميعا.. ادخلوا سابقين ولاحقين.. فكلكم أولياء..
وكلكم سواء! ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها ويملي متبوعها لتابعها.. فلتنظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز فيها:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38كلما دخلت أمة لعنت أختها ! فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه ويتنكر فيها الولي لمولاه!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38حتى إذا اداركوا فيها جميعا ..
وتلاحق آخرهم وأولهم، واجتمع قاصيهم بدانيهم، بدأ الخصام والجدال:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38قالت أخراهم لأولاهم: ربنا هؤلاء أضلونا، فآتهم عذابا ضعفا من النار ..
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء، وهم متناكرون أعداء يتهم بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويطلب له من " ربنا " شر الجزاء.. من " ربنا " الذي كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء! فيكون الجواب استجابة للدعاء.
ولكن أية استجابة؟!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38قال: لكل ضعف، ولكن لا تعلمون .
لكم ولهم جميعا ما طلبتم من مضاعفة العذاب! وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين، حينما سمعوا جواب الدعاء، فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة..
كلنا سواء.. في هذا الجزاء:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39وقالت أولاهم لأخراهم: فما كان لكم علينا من فضل. فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ! وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم، ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل - وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم - :
[ ص: 1291 ] nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=40إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وكذلك نجزي المجرمين nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=41لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش، وكذلك نجزي الظالمين ..
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب.. مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة. فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير، فانتظر حينئذ - وحينئذ فقط - أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين، فتقبل دعاءهم أو توبتهم - وقد فات الأوان - وأن يدخلوا إلى جنات النعيم! أما الآن، وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط، فهم هنا في النار، التي تداركوا فيها جميعا وتلاحقوا وتلاوموا فيها وتلاعنوا، وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء، ونالوا جميعا ما طلبه الأولياء للأولياء!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=40وكذلك نجزي المجرمين ..
ثم إليك هيئتهم في النار:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=41لهم من جهنم مهاد، ومن فوقهم غواش ..
فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش، يدعوه - للسخرية - مهادا، وما هو مهد ولا لين ولا مريح! - ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=41وكذلك نجزي الظالمين ..
والظالمون هم المجرمون. والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله، المفترون الكذب على الله.. كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن.
والآن فلننظر إلى المشهد المقابل:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=42والذين آمنوا وعملوا الصالحات - لا نكلف نفسا إلا وسعها - أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43ونزعنا ما في صدورهم من غل، تجري من تحتهم الأنهار، وقالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا - وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله - لقد جاءت رسل ربنا بالحق. ونودوا: أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ..
هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم، لا يكلفون إلا طاقتهم.. هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم! إنهم أصحابها - بإذن الله وفضله - ورثها لهم - برحمته - بعملهم الصالح مع الإيمان.. جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان. وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم، وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم! ولولا رحمة الله ما كفى عملهم - في حدود طاقتهم - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=662048 " لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله " . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " . وليس هنا لك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى.. وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين، إنما ثار عن الهوى! فلقد علم الله من بني
آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة. ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا. فكتب على نفسه الرحمة وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف وكتب لهم به الجنة، فضلا منه ورحمة، فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة..
وبعد، فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار
[ ص: 1292 ] ويتخاصمون. وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد، بعد أن كانوا أصفياء أولياء.. فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون، يرف عليهم السلام والولاء:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43ونزعنا ما في صدورهم من غل ..
فهم بشر. وهم عاشوا بشرا. وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه، وغل يغالبونه ويغلبونه..
ولكن تبقى في القلب منه آثار.
قال
القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
" nindex.php?page=treesubj&link=30387الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين " .. وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي - رضي الله عنه - أنه قال: أرجو أن أكون أنا
nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان nindex.php?page=showalam&ids=55وطلحة nindex.php?page=showalam&ids=15والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43ونزعنا ما في صدورهم من غل ..
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم. فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار فترف على الجو كله أنسام:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43تجري من تحتهم الأنهار ..
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام، فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ..
وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار .. فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ..
إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.
ثم يستمر العرض، فإذا نحن أمام مشهد لاحق للمشهد السابق.. لقد اطمأن أصحاب الجنة إلى دارهم واستيقن أصحاب النار من مصيرهم. وإذا الأولون ينادون الآخرين، يسألونهم عما وجدوه من وعد الله القديم:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=44ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا: نعم! فأذن مؤذن بينهم: أن لعنة الله على الظالمين. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=45الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ..
وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه.. إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده.
ولكنهم يسألون! ويجيء الجواب في كلمة واحدة.. نعم..!
وعندئذ ينتهي الجواب، ويقطع الحوار:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=44فأذن مؤذن بينهم: أن لعنة الله على الظالمين. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=45الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة كافرون ..
فيتحدد معنى " الظالمين " المقصود. وهو مرادف لمعنى " الكافرين " فهم الذين يصدون عن سبيل الله، ويريدون الطريق عوجا لا استقامة فيه، وهم بالآخرة كافرون.
وفي هذا الوصف:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=45ويبغونها عوجا .. إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله. إنهم يريدون
[ ص: 1293 ] الطريق العوجاء ولا يريدون الطريق المستقيم. يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة. فالاستقامة لها صورة واحدة: صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه. وكل ما عداه فهو أعوج وهو إرادة للعوج. وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة. فما يؤمن بالآخرة أحد، ويستيقن أنه راجع إلى ربه ثم يصد عن سبيل الله، ويحيد عن نهجه وشرعه.. وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعا غير شرع الله. التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح.
وَالْآنَ نَأْخُذُ فِي اسْتِعْرَاضِ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الْعَجِيبَةِ:
هَا نَحْنُ أُولَاءِ أَمَامَ مَشْهَدِ الِاحْتِضَارِ. احْتِضَارِ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فَزَعَمُوا أَنَّ مَا وَرِثُوهُ عَنْ آبَائِهِمْ مِنَ التَّصَوُّرَاتِ وَالشَّعَائِرِ، وَمَا شَرَعُوهُ هُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَحْكَامِ، أَمَرَهُمْ بِهِ اللَّهُ، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا الرُّسُلُ - وَهِيَ شَرْعُ اللَّهِ الْمُسْتَيْقَنُ - وَآثَرُوا الظَّنَّ وَالْخَرَصَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ نَالُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الَّذِي كُتِبَ لَهُمْ، وَمِنْ فَتْرَةِ الِابْتِلَاءِ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ، كَمَا نَالُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا رُسُلَهُ وَأَبْلَغَهُمُ الرُّسُلُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ:
nindex.php?page=treesubj&link=28978_18979_18981_27521_29706_29747_30523_30558_34101_34131nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ؟ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ، حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ، قَالُوا: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنَ دُونِ اللَّهِ؟ قَالُوا: ضَلُّوا عَنَّا، وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ..
هَا نَحْنُ أُولَاءِ أَمَامَ مَشْهَدِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبُوا بِآيَاتِهِ وَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُ رَبِّهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَوَفَّوْنَهُمْ، وَيَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ. فَدَارَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حِوَارٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37قَالُوا: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ ..
أَيْنَ دَعَاوِيكُمُ الَّتِي افْتَرَيْتُمْ عَلَى اللَّهِ؟ وَأَيْنَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي تَوَلَّيْتُمْ فِي الدُّنْيَا، وَفُتِنْتُمْ بِهَا عَمَّا جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ؟ أَيْنَ هِيَ الْآنَ فِي اللَّحْظَةِ الْحَاسِمَةِ الَّتِي تُسْلَبُ مِنْكُمْ فِيهَا الْحَيَاةُ فَلَا تَجِدُونَ لَكُمْ عَاصِمًا مِنَ الْمَوْتِ يُؤَخِّرُكُمْ سَاعَةً عَنِ الْمِيقَاتِ الَّذِي أَجَّلَهُ اللَّهُ؟
وَيَكُونُ الْجَوَابُ هُوَ الْجَوَابَ الْوَحِيدَ، الَّذِي لَا مَعْدَى عَنْهُ، وَلَا مُغَالَطَةَ فِيهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37قَالُوا: ضَلُّوا عَنَّا ! غَابُوا عَنَّا وَتَاهُوا! فَلَا نَحْنُ نَعْرِفُ لَهُمْ مَقَرًّا، وَلَا هُمْ يَسْلُكُونَ إِلَيْنَا طَرِيقًا! .. فَمَا أَضْيَعَ عِبَادًا لَا تَهْتَدِي إِلَيْهِمُ آلِهَتُهُمْ، وَلَا تُسْعِفُهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّحْظَةِ الْحَاسِمَةِ! وَمَا أَخْيَبَ آلِهَةً لَا تَهْتَدِي إِلَى عِبَادِهَا. فِي مِثْلِ هَذَا الْأَوَانِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=37وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ..
[ ص: 1290 ] وَكَذَلِكَ شَهِدْنَاهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي سِيَاقِ السُّورَةِ عِنْدَ مَا جَاءَهُمْ بَأْسُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=5فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ! فَإِذَا انْتَهَى مَشْهَدُ الِاحْتِضَارِ، فَنَحْنُ أَمَامَ الْمَشْهَدِ التَّالِي، وَهَؤُلَاءِ الْمُحْتَضَرُونَ فِي النَّارِ! .. وَيَسْكُتُ السِّيَاقُ عَمَّا بَيْنَهُمَا، وَيُسْقِطُ الْفَتْرَةَ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ. وَكَأَنَّمَا يُؤْخَذُ هَؤُلَاءِ الْمُحْتَضَرُونَ مِنَ الدَّارِ إِلَى النَّارِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38قَالَ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ. قَالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ، فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ .
انْضَمُّوا إِلَى زُمَلَائِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.. هُنَا فِي النَّارِ.. أَلَيْسَ إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي عَصَى رَبَّهُ؟
وَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَزَوْجَهُ؟ وَهُوَ الَّذِي أَغْوَى مَنْ أَغْوَى مِنْ أَبْنَائِهِ؟ وَهُوَ الَّذِي أَوْعَدَهُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَنْ أَغْوَاهُمْ فِي النَّارِ؟ .. فَادْخُلُوا إِذَنْ جَمِيعًا.. ادْخُلُوا سَابِقِينَ وَلَاحِقِينَ.. فَكُلُّكُمْ أَوْلِيَاءُ..
وَكُلُّكُمْ سَوَاءٌ! وَلَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْفِرَقُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْوَلَاءِ بِحَيْثُ يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا وَيُمْلِي مَتْبُوعُهَا لِتَابِعِهَا.. فَلْتَنْظُرِ الْيَوْمَ كَيْفَ تَكُونُ الْأَحْقَادُ بَيْنَهَا، وَكَيْفَ يَكُونُ التَّنَابُزُ فِيهَا:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ! فَمَا أَبْأَسَهَا نِهَايَةً تِلْكَ الَّتِي يَلْعَنُ فِيهَا الِابْنُ أَبَاهُ وَيَتَنَكَّرُ فِيهَا الْوَلِيُّ لِمَوْلَاهُ!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ..
وَتَلَاحَقَ آخِرُهُمْ وَأَوَّلُهُمْ، وَاجْتَمَعَ قَاصِيهِمْ بِدَانِيهِمْ، بَدَأَ الْخِصَامُ وَالْجِدَالُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا، فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ ..
وَهَكَذَا تَبْدَأُ مَهْزَلَتُهُمْ أَوْ مَأْسَاتُهُمْ! وَيَكْشِفُ الْمَشْهَدُ عَنِ الْأَصْفِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَهُمْ مُتَنَاكِرُونَ أَعْدَاءٌ يَتَّهِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَطْلُبُ لَهُ مِنْ " رَبِّنَا " شَرَّ الْجَزَاءِ.. مِنْ " رَبِّنَا " الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ وَيُكَذِّبُونَ بِآيَاتِهِ وَهُمُ الْيَوْمَ يُنِيبُونَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ! فَيَكُونُ الْجَوَابُ اسْتِجَابَةً لِلدُّعَاءِ.
وَلَكِنْ أَيَّةُ اسْتِجَابَةٍ؟!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38قَالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ .
لَكُمْ وَلَهُمْ جَمِيعًا مَا طَلَبْتُمْ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ! وَكَأَنَّمَا شَمِتَ الْمَدْعُوُّ عَلَيْهِمْ بِالدَّاعِينَ، حِينَمَا سَمِعُوا جَوَابَ الدُّعَاءِ، فَإِذَا هُمْ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمْ بِالشَّمَاتَةِ..
كُلُّنَا سَوَاءٌ.. فِي هَذَا الْجَزَاءِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=39وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ: فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ. فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ! وَبِهَذَا يَنْتَهِي ذَلِكَ الْمَشْهَدُ السَّاخِرُ الْأَلِيمُ، لِيَتْبَعَهُ تَقْرِيرٌ وَتَوْكِيدٌ لِهَذَا الْمَصِيرِ الَّذِي لَنْ يَتَبَدَّلَ - وَذَلِكَ قَبْلَ عَرْضِ الْمَشْهَدِ الْمُقَابِلِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِ النَّعِيمِ - :
[ ص: 1291 ] nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=40إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=41لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ..
وَدُونَكَ فَقِفْ بِتَصَوُّرِكَ مَا تَشَاءُ أَمَامَ هَذَا الْمَشْهَدِ الْعَجِيبِ.. مَشْهَدِ الْجَمَلِ تُجَاهَ ثُقْبِ الْإِبْرَةِ. فَحِينَ يُفْتَحُ ذَلِكَ الثُّقْبُ الصَّغِيرُ لِمُرُورِ الْجَمَلِ الْكَبِيرِ، فَانْتَظِرْ حِينَئِذٍ - وَحِينَئِذٍ فَقَطْ - أَنْ تُفَتَّحَ أَبْوَابُ السَّمَاءِ لِهَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ، فَتَقْبَلُ دُعَاءَهُمْ أَوْ تَوْبَتَهُمْ - وَقَدْ فَاتَ الْأَوَانُ - وَأَنْ يَدْخُلُوا إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ! أَمَّا الْآنَ، وَإِلَى أَنْ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، فَهُمْ هُنَا فِي النَّارِ، الَّتِي تَدَارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا وَتَلَاحَقُوا وَتَلَاوَمُوا فِيهَا وَتَلَاعَنُوا، وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سُوءَ الْجَزَاءِ، وَنَالُوا جَمِيعًا مَا طَلَبَهُ الْأَوْلِيَاءُ لِلْأَوْلِيَاءِ!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=40وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ..
ثُمَّ إِلَيْكَ هَيْئَتُهُمْ فِي النَّارِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=41لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ..
فَلَهُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ مِنْ تَحْتِهِمْ فِرَاشٌ، يَدْعُوهُ - لِلسُّخْرِيَةِ - مِهَادًا، وَمَا هُوَ مَهْدٌ وَلَا لَيِّنٌ وَلَا مُرِيحٌ! - وَلَهُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ أَغْطِيَةٌ تَغْشَاهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ!
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=41وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ..
وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْمُجْرِمُونَ. وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، الْمُفْتَرُونَ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ.. كُلُّهَا أَوْصَافٌ مُتَرَادِفَةٌ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ.
وَالْآنَ فَلْنَنْظُرْ إِلَى الْمَشْهَدِ الْمُقَابِلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=42وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ - لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ، وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا - وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ - لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ. وَنُودُوا: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ..
هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، لَا يُكَلَّفُونَ إِلَّا طَاقَتَهُمْ.. هَؤُلَاءِ هُمْ يَعُودُونَ إِلَى جَنَّتِهِمْ! إِنَّهُمْ أَصْحَابُهَا - بِإِذْنِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ - وَرَّثَهَا لَهُمْ - بِرَحْمَتِهِ - بِعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ مَعَ الْإِيمَانِ.. جَزَاءَ مَا اتَّبَعُوا رُسُلَ اللَّهِ وَعَصَوُا الشَّيْطَانَ. وَجَزَاءَ مَا أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ الْعَظِيمِ الرَّحِيمِ، وَعَصَوْا وَسُوسَةَ الْعَدُوِّ اللَّئِيمِ الْقَدِيمِ! وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللَّهِ مَا كَفَى عَمَلُهُمْ - فِي حُدُودِ طَاقَتِهِمْ - وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=hadith&LINKID=662048 " لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمُ الْجَنَّةَ عَمَلُهُ " . قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ " . وَلَيْسَ هُنَا لَكَ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَقَوْلِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ لَا يِنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.. وَكُلُّ مَا ثَارَ مِنَ الْجَدَلِ حَوْلَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بَيْنَ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَمْ يَقُمْ عَلَى الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لِهَذَا الدِّينِ، إِنَّمَا ثَارَ عَنِ الْهَوَى! فَلَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ بَنِي
آدَمَ ضَعْفَهُمْ وَعَجْزَهُمْ وَقُصُورَهُمْ عَنْ أَنْ تَفِيَ أَعْمَالُهُمْ بِحَقِّ الْجَنَّةِ. وَلَا بِحَقِّ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. فَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَقَبِلَ مِنْهُمْ جُهْدَ الْمُقِلِّ الْقَاصِرِ الضَّعِيفِ وَكَتَبَ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّةَ، فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً، فَاسْتَحَقُّوهَا بِعَمَلِهِمْ وَلَكِنْ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ..
وَبَعْدُ، فَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْمُفْتَرُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمُجْرِمُونَ الظَّالِمُونَ الْكَافِرُونَ الْمُشْرِكُونَ يَتَلَاعَنُونَ فِي النَّارِ
[ ص: 1292 ] وَيَتَخَاصَمُونَ. وَتَغْلِي صُدُورُهُمْ بِالسَّخَائِمِ وَالْأَحْقَادِ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَصْفِيَاءَ أَوْلِيَاءَ.. فَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الْجَنَّةِ إِخْوَانٌ مُتَحَابُّونَ مُتَصَافُونَ مُتَوَادُّونَ، يَرِفُّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْوَلَاءُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ..
فَهُمْ بَشَرٌ. وَهُمْ عَاشُوا بَشَرًا. وَقَدْ يَثُورُ بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا غَيْظٌ يَكْظِمُونَهُ، وَغِلٌّ يُغَالِبُونَهُ وَيَغْلِبُونَهُ..
وَلَكِنْ تَبْقَى فِي الْقَلْبِ مِنْهُ آثَارٌ.
قَالَ
الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْمُسَمَّى أَحْكَامَ الْقُرْآنِ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" nindex.php?page=treesubj&link=30387الْغِلُّ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَبَارَكِ الْإِبِلِ قَدْ نَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ " .. وَرُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=7وَعُثْمَانُ nindex.php?page=showalam&ids=55وَطَلْحَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ..
وَإِذَا كَانَ أَهْلُ النَّارِ يَصْطَلُونَ النَّارَ مِنْ تَحْتِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ. فَأَهْلُ الْجَنَّةِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فَتَرِفُّ عَلَى الْجَوِّ كُلِّهِ أَنْسَامٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ..
وَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ يَشْتَغِلُونَ بِالتَّنَابُزِ وَالْخِصَامِ، فَهَؤُلَاءِ يَشْتَغِلُونَ بِالْحَمْدِ وَالِاعْتِرَافِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ..
وَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ يُنَادُونَ بِالتَّحْقِيرِ وَالتَّأْنِيبِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=38ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ .. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُنَادُونَ بِالتَّأْهِيلِ وَالتَّكْرِيمِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=43وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ..
إِنَّهُ التَّقَابُلُ التَّامُّ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ.
ثُمَّ يَسْتَمِرُّ الْعَرْضُ، فَإِذَا نَحْنُ أَمَامَ مَشْهَدٍ لَاحِقٍ لِلْمَشْهَدِ السَّابِقِ.. لَقَدِ اطْمَأَنَّ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ إِلَى دَارِهِمْ وَاسْتَيْقَنَ أَصْحَابُ النَّارِ مِنْ مَصِيرِهِمْ. وَإِذَا الْأَوَّلُونَ يُنَادُونَ الْآخِرِينَ، يَسْأَلُونَهُمْ عَمَّا وَجَدُوهُ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ الْقَدِيمِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=44وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ النَّارِ: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالُوا: نَعَمْ! فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=45الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ..
وَفِي هَذَا السُّؤَالِ مِنَ السُّخْرِيَةِ الْمُرَّةِ مَا فِيهِ.. إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ تَحَقُّقِ وَعِيدِ اللَّهِ كَثِقَتِهِمْ مَنْ تَحَقُّقِ وَعْدِهِ.
وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ! وَيَجِيءُ الْجَوَابُ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.. نَعَمْ..!
وَعِنْدَئِذٍ يَنْتَهِي الْجَوَابُ، وَيُقْطَعُ الْحِوَارُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=44فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=45الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ..
فَيَتَحَدَّدُ مَعْنَى " الظَّالِمِينَ " الْمَقْصُودُ. وَهُوَ مُرَادِفٌ لِمَعْنَى " الْكَافِرِينَ " فَهُمُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُرِيدُونَ الطَّرِيقَ عِوَجًا لَا اسْتِقَامَةَ فِيهِ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ.
وَفِي هَذَا الْوَصْفِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=45وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا .. إِيحَاءٌ بِحَقِيقَةِ مَا يُرِيدُهُ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ
[ ص: 1293 ] الطَّرِيقَ الْعَوْجَاءَ وَلَا يُرِيدُونَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ. يُرِيدُونَ الْعِوَجَ وَلَا يُرِيدُونَ الِاسْتِقَامَةَ. فَالِاسْتِقَامَةُ لَهَا صُورَةٌ وَاحِدَةٌ: صُورَةُ الْمُضِيِّ عَلَى طَرِيقِ اللَّهِ وَنَهْجِهِ وَشَرْعِهِ. وَكُلُّ مَا عَدَاهُ فَهُوَ أَعْوَجُ وَهُوَ إِرَادَةٌ لِلْعِوَجِ. وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ تَلْتَقِي مَعَ الْكُفْرِ بِالْآخِرَةِ. فَمَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ أَحَدٌ، وَيَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى رَبِّهِ ثُمَّ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَحِيدُ عَنْ نَهْجِهِ وَشَرْعِهِ.. وَهَذَا هُوَ التَّصْوِيرُ الْحَقِيقِيُّ لِطَبِيعَةِ النُّفُوسِ الَّتِي تَتْبَعُ شَرْعًا غَيْرَ شَرْعِ اللَّهِ. التَّصْوِيرُ الَّذِي يَجْلُو حَقِيقَةَ هَذِهِ النُّفُوسِ وَيَصِفُهَا الْوَصْفَ الدَّاخِلِيَّ الصَّحِيحَ.