ولأن هذا هو القرآن يجيء مباشرة في السياق هذا التوجيه للمؤمنين:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ..
فتختتم به السورة التي بدأت بالإشارة إلى هذا القرآن: كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، لتنذر به وذكرى للمؤمنين ..
وتختلف الروايات المأثورة في موضع هذا بعضهم يرى أن موضع هذا الأمر هو الصلاة المكتوبة. حين يجهر الإمام بالقرآن فيجب أن يستمع المأموم وينصت، ولا يقرأ هو مع قراءة الإمام الجهرية. ولا ينازع الإمام القرآن! وذلك كالذي رواه الإمام الأمر بالاستماع والإنصات إذا قرئ القرآن.. وأهل السنن، وقال أحمد عنه: هذا حديث حسن، وصححه الترمذي أبو حاتم الرازي، من حديث عن الزهري أبي أكثمة الليثي عن أبي هريرة وكالذي رواه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: " هل قرأ أحد منكم معي آنفا به " قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: " إني أقول: ما لي أنازع القرآن " فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التفسير: حدثنا ابن جرير أبو كريب، حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى فسمع ناسا يقرأون مع الإمام. فلما انصرف قال: " أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا: إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا كما أمركم الله ! وبعضهم يرى أن هذا كان توجيها للمسلمين أن لا يكونوا كالمشركين الذين كانوا يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض بمكة: ابن مسعود، لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . فأنزل الله عز وجل جوابا لهم: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا .. قال القرطبي هذا وقال نزل في الصلاة.
روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر والزهري وعبيد الله بن عمير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب..
وروى سببا للنزول قال: حدثنا ابن جرير أبو كريب، حدثنا عن أبو بكر بن عياش، عاصم عن المسيب.. [ ص: 1425 ] ابن رافع. قال كان يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فجاء القرآن. ابن مسعود: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ..
وقال القرطبي في التفسير: قال محمد بن كعب القرظي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ القرآن في الصلاة أجابه من وراءه. إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم. قالوا مثل قوله، حتى يقضي فاتحة الكتاب والسورة، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث فنزل: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون . وهذا يدل على أن المعنى بالإنصات ترك الجهر على ما كانوا يفعلون من مجاوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبي كذلك: وقال في هذه الآية: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم: كم صليتم؟ قتادة
كم بقي؟ فأنزل الله تعالى: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا .. وعن أيضا: كانوا يتكلمون في الصلاة بحاجتهم، فنزل قوله تعالى: مجاهد ... لعلكم ترحمون .
والذين يرون أنها خاصة بقراءة القرآن في الصلاة يستشهدون بما رواه حدثنا ابن جرير: حميد بن مسعدة، حدثنا حدثنا بشر بن المفضل، الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير يتحدثان والقاص يقص (يعني والقارئ يقرأ) فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود، (يعني قوله تعالى: وعطاء بن أبي رباح لعلكم ترحمون ) قال: فنظرا إلي ثم أقبلا على حديثهما قال فأعدت، فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما! قال فأعدت الثالثة، قال: فنظرا إلي فقالا: إنما ذلك في الصلاة: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا . قال ابن كثير وهو يروي هذا الخبر: وكذا قال عن سفيان الثوري أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن في قوله: مجاهد وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال: في الصلاة، وكذا رواه غير واحد عن وقال مجاهد. عبد الرازق، عن عن الثوري ليث عن قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.. مجاهد،
وبعضهم يرى أنها في الصلاة وفي الخطبة كذلك في الجمع والعيدين، قاله سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار، ويزيد بن أسلم، والقاسم بن مخيمرة، ومسلم بن يسار، وشهر بن حوشب ولكن وعبد الله ابن المبارك، القرطبي قال: " وهذا ضعيف، لأن القرآن فيها قليل، والإنصات يجب في جميعها.
قاله ابن العربي والنقاش: والآية مكية ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة " .
وقال القرطبي في التفسير: قال النقاش: أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة. النحاس: وفي اللغة يجب أن يكون في كل شيء، إلا أن يدل دليل على اختصاص شيء.
ونحن لا نرى في أسباب النزول التي وردت ما يخصص الآية بالصلاة المكتوبة وغير المكتوبة، ذلك أن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. والأقرب أن يكون ذلك عاما لا يخصصه شيء، فالاستماع إلى هذا القرآن والإنصات له - حيثما قرئ - هو الأليق بجلال هذا القول، وبجلال قائله سبحانه! وإذا قال الله أفلا يستمع الناس وينصتون؟! ثم رجاء الرحمة لهم: لعلكم ترحمون .. ما الذي يخصصه بالصلاة؟ وحيثما قرئ القرآن، واستمعت له النفس وأنصتت، كان ذلك أرجى لأن تعي وتتأثر وتستجيب فكان ذلك أرجى أن ترحم في الدنيا والآخرة جميعا..
إن الناس يخسرون الخسارة التي لا يعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن.. وإن الآية الواحدة لتصنع أحيانا في النفس - حين تستمع لها وتنصت - أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والتكيف والرؤية [ ص: 1426 ] والإدراك، والطمأنينة والراحة، والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة.. مما لا يدركه إلا من ذاقه وعرفه! وإن العكوف على هذا القرآن - في وعي وتدبر لا مجرد التلاوة والترنم! - لينشئ في القلب والعقل من الرؤية الواضحة البعيدة المدى ومن المعرفة المطمئنة المستيقنة ومن الحرارة والحيوية والانطلاق! ومن الإيجابية والعزم والتصميم ما لا تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب! وإن رؤية حقائق الوجود - من خلال التصوير القرآني - وحقائق الحياة، ورؤية الحياة البشرية وطبيعتها وحاجاتها من خلال التقريرات القرآنية، لهي رؤية باهرة واضحة دقيقة عميقة. تهدي إلى معالجتها وإلى مزاولتها بروح أخرى، غير ما توجه إليه سائر التصويرات والتقريرات البشرية..
وهذا كله أرجى إلى الرحمة.. وهو يكون في الصلاة وفي غير الصلاة. وليس هناك ما يخصص هذا التوجيه القرآني العام بالصلاة كما روى القرطبي عن النحاس.