وإذ إن الأمر كذلك.. والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر. والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة.. فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا; وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة; وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد، وصاحب القوة والسلطان; وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة; وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل; وليحترزوا من خداع الشيطان، الذي أهلك أولئك الكفار; وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم: التدبير تدبير الله. والنصر من عند الله.
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا. واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط. وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب. إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم! ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ..
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات، وقواعد وتوجيهات، وصور ومشاهد وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة، وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر.. مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير; ثم لا يبلغ ذلك شيئا من هذا التصوير المدهش الفريد!
إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا - في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة - وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء، وإلى التزود بزاد النصر; والتأهب بأهبته.
[ ص: 1528 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط ..
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية: والحذر من البطر والرئاء والبغي.. الثبات عند لقاء العدو. والاتصال بالله بالذكر. والطاعة لله والرسول. وتجنب النزاع والشقاق. والصبر على تكاليف المعركة.
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر. فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟ بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟!
وأما ذكر الله كثيرا عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة، وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي.
ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عند ما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة، فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي، قولهم: وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا. ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ..
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل، وهي تواجه جالوت وجنوده: ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ..
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. وما كان قولهم إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين ..
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة; فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدوا. وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم، كان هذا التعليم حاضرا في نفوسها: الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ..
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى: إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه.. وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها، فهي معركة لله، لتقرير ألوهيته في الأرض، وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية; وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا لا للسيطرة، ولا للمغنم، ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي.. كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف.. وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة; يحققها هذا التعليم الرباني.
وأما طاعة الله ورسوله، فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم .. فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار. فإذا استسلم الناس لله [ ص: 1529 ] ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع "الذات" في كفة، والحق في كفة; وترجيح الذات على الحق ابتداء!.. ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة.. إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها. وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلا.. والمسافة كبيرة كبيرة..
وأما الصبر. فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة.. أية معركة.. في ميدان النفس أم في ميدان القتال.
واصبروا، إن الله مع الصابرين ..
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح..
ويبقى التعليم الأخير:
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط ..
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها.. والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله; تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر، وتقرير عبودية العباد لله وحده. وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده، والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله، تستذل إنسانية الإنسان وكرامته.
وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم، لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الاستخدام المنكر. وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة، فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد; وفي إقامة منهجه; في الحياة وفي إعلاء كلمته في الأرض; وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه.. حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله..
ولقد كانت صورة الخروج بطرا ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة; يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها; كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشا التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله: وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة.. وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه:
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله. والله بما يعملون محيط ..
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل، وقد جاءه رسول بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير، إذ لم تعد بهم حاجة لقتال أبي سفيان - محمد وأصحابه. وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق. فقال أبو جهل: "لا والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم ثلاثا، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، [ ص: 1530 ] وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبدا".. فلما عاد الرسول إلى برد أبي سفيان أبي جهل قال: "وا قوماه! هذا عمل عمرو بن هشام (يعني أبا جهل) كره أن يرجع، لأنه ترأس على الناس فبغى، والبغي منقصة وشؤم، إن أصاب محمد النفير ذللنا".. وصحت فراسة وأصاب أبي سفيان، محمد - صلى الله عليه وسلم - النفير; وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله; وكانت بدر قاصمة الظهر لهم:
والله بما يعملون محيط ..
لا يفوته منهم شيء، ولا يعجزه من قوتهم شيء، وهو محيط بهم وبما يعملون.
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار:
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم. فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه، وقال: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب ..
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار; ليس من بينها حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما رواه في الموطإ: حدثنا مالك قال: حدثنا أحمد بن الفرج، عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، قال: حدثنا عن مالك، إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا: يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال: "أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة".. "ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، وهو ضعيف الحديث، والخبر مرسل.
فأما سائر الآثار فعن رضي الله عنهما - من طريق ابن عباس - علي بن أبي طلحة وطريق وعن ابن جريج. من طريق عروة بن الزبير وعن ابن إسحاق. من طريق قتادة وعن سعيد بن جبير. وعن الحسن وهذه أمثلة منها من رواية محمد بن كعب. ابن جرير الطبري:
حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني عن معاوية علي بن أبي طلحة، عن قال: ابن عباس جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية، في صورة رجل من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم .. فلما اصطف الناس أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولوا مدبرين. وأقبل جبير إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده فولى مدبرا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة.
حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: قال حدثني ابن إسحاق: يزيد بن رومان. عن قال: لما أجمعت عروة بن الزبير قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم. فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف كنانة، فقال: [ ص: 1531 ] أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا سراعا.
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قوله: قتادة وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم إلى قوله: شديد العقاب قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة، وقال: "إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله".. وكذب والله عدو الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم، وتبرأ منهم عند ذلك.
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر. فهي من أمور الاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته. ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض..
وفي هذا الحادث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم، وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم; وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي رأى أحدهما الآخر - "نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب".. فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم، ولم يوف بعهده معهم..
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم، والتي قال لهم بها: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم. والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك..
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب; ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم. والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث..
فإلى هنا ينتهي اجتهادنا. ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم. وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية:
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم .. أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين، إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم:
لا غالب لكم اليوم من الناس، لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب، فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا، وإني مع هذا - أو والحال أني - جار لكم. قال البيضاوي في تفسيره: وأوهمهم أن اتباعهم إياه، فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم، حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين.
فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه .. أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر، وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه، نكص: أي رجع القهقرى، وتولى إلى الوراء، وهو جهة العقبين (أي مؤخري الرجلين) وأخطأ من قال من المفسرين: إن المراد بالترائي التلاقي - والمراد: أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء; وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره. ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم، وتركه إياهم وشأنهم وهو وقال: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله أي تبرأ منهم وخاف عليهم، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة والله شديد العقاب يجوز [ ص: 1532 ] أن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفا.
... أقول: معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم; كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم ....
وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين; وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى: فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان - وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين.. هو منهج تلك المدرسة بجملتها.. ومثله تفسير "الطير الأبابيل" بأنها ميكروبات الجدري! في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم.. هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية; حيث لا ضرورة لهذا التأويل، لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها.. وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة.. وهو المنهج الذي اتخذناه فعلا..
وبعد، فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، ويشجعهم على الخروج، ثم يتركهم لمصيرهم البائس... كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف، يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون; وهم يرونها تواجه جحافل المشركين، وهي قليلة العدد ضعيفة العدة; ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة، مخدوعين بدينهم، ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم:
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم ..
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل: إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الإسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين، فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة!
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة; فهم يرون ظواهر الأمور، دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها; ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة، والثقة في الله، والتوكل عليه، واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية.. فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم، مغرورين بدينهم، واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها!
إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان. ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر.. فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئا وراءه; والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من "الواقع" الحقيقي! الواقع الذي يشمل جميع القوى، ويوازن بينها موازنة صحيحة:
ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم .. [ ص: 1533 ] هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه; وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه! وهذا ما يرجح الكفة، ويقرر النتيجة، ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان.
وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض، عن العصبة المسلمة يوم بدر: "غر هؤلاء دينهم".. هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه; وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين; وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة; وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله; وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه.
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت، وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر، وتستخف بالخطر! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة، وللأخطار الواضحة.. إنهم هم لا يعرفون مبررا لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة!.. إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة. إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى!.. إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن، ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان.. إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائما; فهي مؤدية إلى إحدى الحسنيين: النصر والغلب، أو الشهادة والجنة.. ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف; فهناك الله.. وهذا ما لا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض!
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة; وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه، وأن ترى بنور الله وهداه، وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة، وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله، وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين:
ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ..
.. وصدق الله العظيم..
وأخيرا يعرض السياق القرآني مشهدا من مشاهد التدخل الإلهي في المعركة، والملإ الأعلى من الملائكة - بأمر الله وإذنه - يشارك في أخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب; والملائكة يقبضون أرواحهم في صورة منكرة، ويؤذونهم أذى مهينا - جزاء على البطر والاستكبار - ويذكرونهم في أشد اللحظات ضيقا وحرجا بسوء أعمالهم وبسوء مآلهم، جزاء وفاقا لا يظلمهم الله فيه شيئا.. ويقرر السياق في إثر عرض هذا المشهد أن أخذ الكفار بتكذيبهم سنة ماضية: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأنه كذلك أخذ فرعون وملأه، وكذلك يأخذ كل من يفعل فعله ويشرك شركه:
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وذوقوا عذاب الحريق. ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، إن الله قوي شديد العقاب. ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله سميع عليم. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم، فأهلكناهم بذنوبهم، وأغرقنا آل فرعون. وكل كانوا ظالمين .
والآيتان الأوليان في هذا المقطع: [ ص: 1534 ] ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد ..
قدتعنيان حال المشركين يوم بدر; والملائكة تشترك في المعركة - كما قال لهم الله سبحانه: فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب .. وإن كنا - كما قلنا عند استعراض هذا النص في الجزء التاسع - لا ندري كيف تضرب الملائكة فوق الأعناق وكل بنان. ولكن جهلنا بالكيفية لا يدعونا إلى تأويل هذا النص عن مدلوله الظاهر; وهو أن هناك أمرا من الله للملائكة بالضرب، وأن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ..
وتكون هاتان الآيتان هنا تذكيرا بما كان يوم بدر; وتكملة لحكاية فعل الملائكة فيه بالذين كفروا..
كما أن هاتين الآيتين قد تعنيان حالة دائمة كلما توفت الملائكة الذين كفروا.. في يوم بدر وفي غيره..
ويكون قوله تعالى: ولو ترى .. موجها توجيه الخطاب لكل من يرى، كما يكثر مثل هذا الأسلوب في التوجيه إلى المشاهد البارزة التي من شأنها أن يتوجه إليها كل من يرى..
وسواء كان هذا أو ذاك. فالتعبير القرآني يرسم صورة منكرة للذين كفروا، والملائكة تستل منهم أرواحهم في مشهد مهين; يضيف المهانة والخزي، إلى العذاب والموت:
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ..
ثم يتحول السياق من صيغة الخبر إلى صيغة الخطاب:
وذوقوا عذاب الحريق .
ليرد المشهد حاضرا كأنه اللحظة مشهود; وكأنما جهنم بنارها وحريقها في المشهد وهم يدفعون إليها دفعا مع التأنيب والتهديد:
ذلك بما قدمت أيديكم ..
وأنتم إنما تلاقون جزاء عادلا، تستحقونه بما قدمت أيديكم:
وأن الله ليس بظلام للعبيد ..
وهذا النص - بما يعرضه من مشهد "عذاب الحريق" - يثير في النفس سؤالا: ترى هذا تهديد من الملائكة للذين كفروا بعذاب المستقبل المقرر لهم - كأنه واقع بهم - بعد البعث والحساب؟ أم إنهم يلاقون عذاب الحريق بمجرد توفيهم؟..
وكلاهما جائز، لا يمنع مانع من فهمه من النص القرآني.. ولا نحب أن نزيد شيئا على هذا التقرير.. فهو أمر من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه; وليس علينا فيه إلا اليقين بوقوعه. وهو واقع ما له من دافع. أما موعده فعلم ذلك عند علام الغيوب.
وننتقل من هذه الوقفة الخاطفة، مع السياق في انتقاله إلى تقرير الحقيقة الكلية وراء هذا المشهد.. إن [ ص: 1535 ] أخذ الذين كفروا بالمهانة والعذاب، سنة ماضية لا تتخلف ولا تتبدل; فهذا هو المصير المحتوم الذي جرت به السنة من قديم:
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله، فأخذهم الله بذنوبهم، إن الله قوي شديد العقاب ..
إن الله - سبحانه - لا يكل الناس إلى فلتات عابرة، ولا إلى جزاف لا ضابط له.. إنما هي سنته يمضي بها قدره.. وما أصاب المشركين في يوم بدر، هو ما يصيب المشركين في كل وقت; وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم:
كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ..
ولم يعجزوه - سبحانه - ولم يتخلف عنهم عقابه:
إن الله قوي شديد العقاب .
ولقد آتاهم الله من نعمته، ورزقهم من فضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها.. وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحانا، لينظر أيشكرون أم يكفرون؟ ولكنهم كفروا; ولم يشكروا وطغوا وبغوا بما أعطوا، وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة.. وجاءتهم آيات الله فكفروا بها.. وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها.. وعندئذ غير الله النعمة، وأخذهم بالعذاب، ودمر عليهم تدميرا:
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وأن الله سميع عليم. كدأب آل فرعون والذين من قبلهم. كذبوا بآيات ربهم، فأهلكناهم بذنوبهم، وأغرقنا آل فرعون. وكل كانوا ظالمين ..
لقد أهلكهم الله بعد التكذيب بآياته. ولم يهلكهم قبلها سبحانه - مع أنهم كانوا كافرين - لأن هذه سنته ورحمته: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .. وهو يعبر هنا عن آل فرعون والذين من قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا بآيات الله فأهلكهم.. بأنهم كانوا ظالمين .. مستخدما لفظ " الظلم " بمعنى "الكفر" أو "الشرك" وهذا هو الاستعمال الغالب في القرآن..
ولا بد أن نقف قليلا عند نص هذه الآية:
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
إنه، من جانب، يقرر عدل الله في معاملة العباد; فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم، ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها.. ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم، حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله; ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم.. ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة - تقابل التكريم العظيم - على هذا الكائن. فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه [ ص: 1536 ] ويملك أن يزاد عليها، إذا هو عرف فشكر; كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر، وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه.
وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانبا من جوانب "التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان"; وعلاقة قدر الله به في هذا الوجود; وعلاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه.. ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان الله; وتكريمه بهذا التقدير; كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله; فيبدو عنصرا إيجابيا في صياغة هذا المصير - بإذن الله وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه - وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية، التي تصوره عنصرا سلبيا إزاء الحتميات الجبارة. حتمية الاقتصاد، وحتمية التاريخ، وحتمية التطور.. إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة، ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول!
كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه; وتصور عدل الله المطلق، في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره، ولا يظلم فيها عبد من عبيده:
وأن الله ليس بظلام للعبيد ..
فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ..
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. والحمد لله رب العالمين..