إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد; وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضا. فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا، ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين، ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر!
فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية، ووضع العبودية فيه لله وحده; وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد.. فإن الأمر يختلف من أساسه. ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية; ويحرر البشر من العبودية للعباد; ويتركهم أحرارا في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة لله وحده.
والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليا ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير الله. ينسون هذه الحقيقة الكبرى.. وهي أن هناك منهجا ربانيا العبودية فيه لله وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد!!!
إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي; فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين. لعل الله أن يرزقهم القوة من عنده; وأن يجعل لهم الفرقان الذي وعد به عباده المتقين!
وأخيرا فإن - في مصحف هذه السورة لم تكتب البسملة في أولها كبقية السور رضي الله عنه وهو [ ص: 1583 ] عمدة المصاحف - وقد روى عثمان بإسناده - عن الترمذي - قال: ابن عباس ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال - وهي من المثاني - وإلى براءة - وهي من المئين - وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال لعثمان بن عفان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مما يأتي عليه الزمان وهو تتنزل عليه السور ذات العدد. فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا". وكانت الأنفال من أول ما نزل عثمان: بالمدينة. وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن. وكانت قصتها شبيهة بقصتها. وخشيت أنها منها. وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتهما في السبع الطوال". "قلت
وهذه الرواية أقرب الروايات إلى تقديم تفسير مقبول لوضع السورتين هكذا، وعدم الفصل بينهما بسطر: "بسم الله الرحمن الرحيم". كما أنها تفيدنا في تقرير أن وضع الآيات في السور، وترتيبها في مواضعها، كان يتم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته. وأن سورا متعددة كانت تظل مفتوحة في الوقت الواحد; فإذا نزلت آية أو آيات في مناسبة واقعة تواجه واقعا قائما. أو تكمل حكما أو تعد له، وفق المنهج، الحركي الواقعي لهذا الدين، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن توضع في موضعها من سورتها.. وبذلك كانت هناك حكمة معينة في أن تتضمن كل سورة ما تضمنته من الآيات، وحكمة معينة كذلك في ترتيبها في مواضعها من السورة.
ولقد لاحظنا - كما أثبتنا ذلك مرارا في التعريف بالسور - أن هناك "شخصية" خاصة لكل سورة; وسمات معينة تحدد ملامح هذه الشخصية. كما أن هناك جوا معينا وظلالا معينة. ثم تعبيرات بعينها في السورة الواحدة. تؤكد هذه الملامح، وتبرز تلك الشخصية! ولعل في الفقرة السابقة، وفي حديث قبلها، ما يفسر هذه الظاهرة الواضحة التي أثبتناها مرارا في التعريف بالسور في هذه الظلال. ابن عباس
والآن نكتفي بهذا القدر في التعريف المجمل بالسورة; وننتقل إلى مواجهة النصوص القرآنية في سياقها.
.. وعلى الله التوفيق ومنه التيسير..