وينتقل السياق - مرة أخرى - إلى الحديث عن المتخلفين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك:
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل: نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون. فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل: لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا. إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين. ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون. ولا تعجبك أموالهم وأولادهم، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون ..
هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض. ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة. وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان.. هؤلاء المخلفون - والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعا يخلف أو هملا يترك - فرحوا بالسلامة والراحة "خلاف رسول الله" وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد، وحسبوا أن السلامة غاية يحرص عليها الرجال! وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ..
وقالوا: لا تنفروا في الحر وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال.
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة; وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز. وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات. ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال.
والنص يرد عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة:
وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل: نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .
فإن كانوا يشفقون من حر الأرض، ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال. فكيف بهم في حر جهنم وهي أشد حرا، وأطول أمدا؟ وإنها لسخرية مريرة، ولكنها كذلك حقيقة. فإما كفاح في سبيل الله فترة محدودة في حر الأرض، وإما انطراح في جهنم لا يعلم مداه إلا الله:
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ..
[ ص: 1683 ] وإنه لضحك في هذه الأرض وأيامها المعدودة، وإنه لبكاء في أيام الآخرة الطويلة. وإن يوما عند ربك كألف سنة مما يعدون.
جزاء بما كانوا يكسبون ..
فهو الجزاء من جنس العمل، وهو الجزاء العادل الدقيق.
هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد - في ساعة العسرة - وتخلفوا عن الركب في أول مرة. هؤلاء لا يصلحون لكفاح، ولا يرجون لجهاد، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين:
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج، فقل: لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، فاقعدوا مع الخالفين ..
إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق. والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب. فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيدا عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة. والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء، جناية على الصف كله، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحه المرير..
فقل: لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا .
لماذا؟.
إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ..
ففقدتم حقكم في شرف الخروج، وشرف الانتظام في الكتيبة، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل. فلا سماحة في هذا ولا مجاملة:
فاقعدوا مع الخالفين ..
المتجانسين معكم في التخلف والقعود.
هذا هو الطريق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبدا. فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق..
وكما أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بألا يسمح للمتخلفين في ساعة العسرة أن يعودوا فينتظموا في الصفوف، كذلك أمره ألا يخلع عليهم أي ظلال من ظلال التكريم:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره. إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .
ولقد ذكر المفسرون حوادث خاصة عنتها هذه الآية. ولكن دلالة الآية أعم من الحوادث الخاصة. فهي تقرر أصلا من أصول التقدير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة، هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق; وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف. ومقياس هذا التقدير هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين.
والنص يعلل هذا النهي في موضعه هنا إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون وهو تعليل خاص بعدم الصلاة أو قيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قبر منافق.. ولكن القاعدة - كما ذكرنا - أوسع [ ص: 1684 ] من المناسبة الخاصة. فالصلاة والقيام تكريم. والجماعة المسلمة يجب ألا تبذل هذا التكريم لمن يتخلف عن الصف في ساعة الجهاد، لتبقى له قيمته، ولتظل قيم الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله، وبما يصبرون على البذل، ويثبتون على الجهد، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة، ثم يعودون في الصف مكرمين!
لا التكريم الظاهر ينالونه في أعين الجماعة، ولا التكريم الباطن ينالونه في عالم الضمير:
ولا تعجبك أموالهم وأولادهم. إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ..
والمعنى العام للآية قد سبق في السياق. أما مناسبة ورودها فتختلف. فالمقصود هنا ألا يقام وزن لأموالهم وأولادهم، لأن الإعجاب بها نوع من التكريم الشعوري لهم. وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الشعور.
إنما هو الاحتقار والإهمال لهم ولما يملكون.
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم، وقالوا: ذرنا نكن مع القاعدين: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، ذلك الفوز العظيم ..
إنهما طبيعتان.. طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء. وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء. وإنهما خطتان.. خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون. وخطة الاستقامة والبذل والكرامة.
فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولوا الطول، الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل. جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها الله لهم، وشكر النعمة التي أعطاها الله إياهم، ولكن ليتخاذلوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن. دون أن يستشعروا ما في هذه القعدة الذليلة من صغار وهوان، ما دام فيها السلامة، وطلاب السلامة لا يحسون العار، فالسلامة هدف الراضين بالدون:
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ..
وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ..
ولو كانوا يفقهون لأدركوا ما في الجهاد من قوة وكرامة وبقاء كريم، وما في التخلف من ضعف ومهانة وفناء ذميم.
إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة. وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين. وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة. إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون" ومن هؤلاء.. أولئك الذين رضوا [ ص: 1685 ] بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ..
لكن الرسول والذين آمنوا معه .. وهم طراز آخر غير ذلك الطراز.. جاهدوا بأموالهم وأنفسهم .
فنهضوا بتكاليف العقيدة، وأدوا واجب الإيمان; وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود وأولئك لهم الخيرات .. خيرات الدنيا والآخرة، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية. وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى، ولهم رضوان الله الكريم وأولئك هم المفلحون .. الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم: أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها .. ذلك الفوز العظيم وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ..
فأما الأولون فهم ذوو الأعذار الحقيقية فلهم عذرهم إن استأذنوا في التخلف، وأما الآخرون فقعدوا بلا عذر. قعدوا كاذبين على الله والرسول. وهؤلاء ينتظر الذين كفروا منهم عذاب أليم. أما الذين يتوبون ولا يكفرون فمسكوت عنهم لعل لهم مصيرا غير هذا المصير.
وأخيرا يحدد التبعة. فليس الخروج ضربة لازب على من يطيقون ومن لا يطيقون. فالإسلام دين اليسر ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والذين عجزوا عن النفرة لا تثريب عليهم ولا مؤاخذة لهم، لأنهم معذورون:
ليس على الضعفاء ولا على المرضى، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله. ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون .
ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم، أو لشيخوخة تقعدهم، ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد، ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به.. ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله، لا يغشون ولا يخدعون، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه - دون القتال - من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين. ليس عليهم جناح، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون، فلا جناح على المحسنين، إنما الجناح على المسيئين.
ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة. فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب؛ ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعا، لأنهم لا يجدون ما ينفقون.
وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه. وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - تختلف الروايات في تعيين أسمائهم، ولكنها تنفق على الواقعة الصحيحة.
روى العوفي عن وذلك ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقوى المازني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم: "والله لا أجد ما أحملكم عليه" فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا: فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه.
وقال نزلت في مجاهد: بني مقرن من مزينة.
[ ص: 1686 ] وقال كانوا سبعة نفر من محمد بن كعب بني عمرو بن عوف: سالم بن عوف، ومن بني واقف: حرمي بن عمر، ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى، ومن بني المعلى: فضل الله، ومن بني سلمة: عمرو بن عتمة وعبد الله بن عمرو والمزني.
وقال في سياق غزوة ابن إسحاق تبوك: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الباكون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلية بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن أخو وعمرو بن الحمام بن الجموح بني سلمة، وبعض الناس يقول: بل هو وعبد الله بن المغفل المزني، عبد الله بن عمرو المزني وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا أهل حاجة: فقال: "لا أجد ما أحملكم عليه" تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزت كلمته. فلننظر أين نحن من هؤلاء. ولننظر أين روحنا من تلك العصبة. ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر. وإلا فلنسدد ولنقارب والله المستعان.
[ ص: 1687 ] انتهى الجزء العاشر
ويليه الجزء الحادي عشر مبدوءا بقوله تعالى:
إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء