إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93) يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (94) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون (95) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (96)
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا يجد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يحملهم عليه إلى أرض المعركة.. من جناح ولا حرج إذا هم تخلفوا عن المعركة.. إنما الجناح والحرج على الذين يستأذنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القعود وهم أغنياء قادرون، لا يقعدهم عذر حقيقي عن الخروج.. إنما الجناح والحرج على هؤلاء القادرين الذين يرضون أن يقعدوا قعدة الخوالف في الدور..
هؤلاء هم المؤاخذون بتخلفهم عن الخروج، والاستئذان في القعود، ذلك أنهم ناكلون متثاقلون، لا يؤدون حق الله عليهم وقد أغناهم وأقدرهم; ولا يؤدون حق الإسلام وقد حماهم وأعزهم; ولا يؤدون حق المجتمع الذي يعيشون فيه وقد أكرمهم وكفلهم.. ومن ثم يختار الله - سبحانه - لهم هذا الوصف:
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ..
[ ص: 1695 ] فهو سقوط الهمة، وضعف العزيمة، والرضا بأن يكونوا مع النساء والأطفال والعجزة الذين يخلفون في الدور لعجزهم عن تكاليف الجهاد.. وهم معذورون.. فأما أولئك فما هم بمعذورين!
وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ..
فقد أغلق الله فيهم منافذ الشعور والعلم، وعطل فيهم أجهزة الاستقبال والإدراك، بما ارتضوه هم لأنفسهم من الخمول والبلادة والوخم، والاحتجاب عن مزاولة النشاط الحركي الحي المتفتح المنطلق الوثاب! وما يؤثر الإنسان السلامة الذليلة والراحة البليدة إلا وقد فرغت نفسه من دوافع التطلع والتذوق والتجربة والمعرفة، فوق ما فرغت من دوافع الوجود والشهود والتأثر والتأثير في واقع الحياة. وإن بلادة الراحة لتغلق المنافذ والمشاعر، وتطبع على القلوب والعقول. والحركة دليل الحياة، ومحرك في الوقت ذاته للحياة. ومواجهة الخطر تستثير كوامن النفس وطاقات العقل، وتشد العضل، وتكشف عن الاستعدادات المخبوءة التي تنتفض عند الحاجة، وتدرب الطاقات البشرية على العمل وتشحذها للتلبية والاستجابة.. وكل أولئك ألوان من العلم والمعرفة والتفتح يحرمها طلاب الراحة البليدة والسلامة الذليلة.
ويمضي السياق يصف حال هؤلاء الأغنياء القادرين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف..
إن وراء حب الدعة وإيثار السلامة، سقوط الهمة، وذلة النفس، وانحناء الهامة، والتهرب من المواجهة والمصارحة:
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ..
وهذا من إنباء الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين الخلص بما سيكون من أمر هؤلاء المتخلفين من المنافقين بعد الرجوع من الغزوة. مما يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة وقبل الوصول إلى المدينة.
يعتذرون إليكم عن تخلفهم وقعودهم، ذلك أنهم يخجلون من الظهور بفعلتهم هذه عارية، ومن الكشف عن أسبابها الحقيقية; وهي ضعف الإيمان، وإيثار السلامة، والإشفاق من الجهاد! قل: لا تعتذروا. لن نؤمن لكم. قد نبأنا الله من أخباركم قل: وفروا عليكم معاذيركم. فلن نطمئن إليكم، ولن نصدقكم، ولن نأخذ بظاهر إسلامكم كما كنا نفعل. ذلك أن الله قد كشف لنا حقيقتكم، وما تنطوي عليه صدوركم; وقص علينا دوافع أعمالكم; وحدثنا عن حالكم، فلم تعد مستورة لا نرى إلا ظاهرها كما كنا من قبل معكم.
والتعبير عن عدم التصديق والثقة والائتمان والاطمئنان بقوله تعالى: لن نؤمن لكم ذو دلالة خاصة. فالإيمان تصديق وثقة وائتمان واطمئنان. تصديق بالقول وائتمان بالعقل واطمئنان بالقلب، وثقة من المؤمن بربه، وثقة متبادلة بينه وبين المؤمنين معه. وللتعبير القرآني دائما دلالته وإيحاؤه.
قل: لا تعتذروا. فلا جدوى للقول ولا معول على الكلام. ولكن اعملوا فإن صدق عملكم ما تقولون فذاك، وإلا فلا ثقة بالقول ولا ائتمان ولا اطمئنان:
وسيرى الله عملكم ورسوله ..
والله لا تخفى عليه الأعمال ولا النوايا المخبوءة وراءها; ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيزن قولكم بعملكم. وعلى أساسه سيكون التعامل معكم في المجتمع المسلم.
ولن ينتهي الأمر - على كل حال - بما يجري في هذه الأرض في فترة الحياة الدنيا. فوراء ذلك حساب [ ص: 1696 ] وجزاء، يقومان على علم الله المطلق بالظواهر والسرائر:
ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ..
والغيب ما غاب عن الناس علمه، والشهادة ما يشهدونه ويعرفونه. والله سبحانه عالم الغيب والشهادة بهذا المعنى. وبمعنى أشمل وأكبر. فهو سبحانه يعلم ما في هذا العالم المشهود ويعلم ما وراءه من العوالم المغيبة..
وفي قوله تعالى لأولئك المخاطبين: فينبئكم بما كنتم تعملون .. إيماءة مقصودة. فهم يعلمون ما كانوا يعملون. ولكن الله - سبحانه - أعلم منهم بها حتى لينبئهم هو بها! وكم من دافع خفي للعمل يخفى حتى على صاحبه وهو يفعله، والله أعلم به منه! وكم من نتيجة لهذا العمل لا يدري صاحبه وقوعها، والله يعلمها دون صاحبها!.. والمقصود - بطبيعة الحال - هو نتيجة الإنباء. وهي الحساب والجزاء الحق على الأعمال. ولكن هذه النتيجة لا ينص عليها، إنما ينص على الإنباء ذاته لمناسبة هذه الإيماءة في هذا السياق.
سيحلفون بالله لكم - إذا انقلبتم إليهم - لتعرضوا عنهم. فأعرضوا عنهم، إنهم رجس، ومأواهم جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون ..
وهذا إنباء آخر من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، عما سيكون من أمر القوم عند ما يعود إليهم هو والمؤمنون الخلص معه سالمين آمنين. وكان المنافقون قد ظنوا أنهم لا يعودون من لقاء الروم!
فقد علم الله وأخبر نبيه أنهم سيؤكدون معاذيرهم بالحلف بالله لعل المسلمين يعرضون عن فعلتهم وتخلفهم عفوا وصفحا; ولا يحاسبونهم عليها ويجازونهم بها.
ثم يوجهه ربه إلى الإعراض عنهم فعلا، لكن لا بمعنى العفو والصفح; إنما بمعنى الإهمال والاجتناب. معللا ذلك بأنهم دنس يتجنب ويتوقى:
فأعرضوا عنهم، إنهم رجس ..
وهو التجسيم الحسي للدنس المعنوي. فهم ليسوا رجسا - أي: دنسا - بأجسادهم وذواتهم; إنما هم رجس بأرواحهم وأعمالهم. ولكنها الصورة المجسمة أشد بشاعة وأبين قذارة، وأدعى إلى التقزز والاشمئزاز، وإلى الاحتقار كذلك والازدراء!
والقاعدون في الجماعة المكافحة - وهم قادرون على الحركة - الذين يقعد بهم إيثار السلامة عن الجهاد..
رجس ودنس. ما في ذلك شك ولا ريب.. رجس خبيث يلوث الأرواح، ودنس قذر يؤذي المشاعر; كالجثة المنتنة في وسط الأحياء تؤذي وتعدي!
ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ..
وهم يحسبون أنهم يكسبون بالتخلف; ويربحون بالقعود; ويجنون السلامة والراحة; ويحتفظون بالعافية والمال.. ولكن الحقيقة أنهم دنس في الدنيا، وأنهم يضيعون نصيبهم في الآخرة. فهي الخسارة المطبقة بكل ألوانها وأشكالها.. ومن أصدق من الله حديثا؟.
ثم يمضي السياق ينبئ عما سيقع من هؤلاء القاعدين بعد عودة المجاهدين:
يحلفون لكم لترضوا عنهم. فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ..
إنهم يطلبون ابتداء من المسلمين أن يعرضوا عن فعلتهم صفحا وعفوا. ثم يتدرجون من هذا إلى طلب رضى المسلمين عنهم ليضمنوا السلامة في المجتمع المسلم بهذا الرضى! ويضمنوا أن يظل المسلمون يعاملونهم بظاهر [ ص: 1697 ] إسلامهم كما كانوا يعاملونهم; ولا يجاهدونهم ويغلظون عليهم كما أمرهم الله في هذه السورة أن يفعلوا; محددا بذلك العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين فيهم.
ولكن الله سبحانه يقرر أنهم فسقوا عن دين الله بهذا القعود الناشئ عن النفاق; وأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين. حتى ولو استطاعوا أن يحلفوا ويعتذروا حتى يرضى عنهم المسلمون!.. وحكم الله فيهم هو الحكم. ورضا الناس - ولو كانوا هم المسلمين - في هذه الحالة لا يغير من غضب الله عليهم، ولا يجديهم فتيلا. إنما السبيل إلى إرضاء الله هو الرجوع عن هذا الفسق، والعودة إلى دين الله القويم!
وهكذا كشف الله هؤلاء القاعدين - من غير عذر - في الجماعة المسلمة; وقرر العلاقات النهائية بين المسلمين والمنافقين. كما قررها من قبل بين المسلمين والمشركين، وبين المسلمين وأهل الكتاب. وكانت هذه السورة هي الحكم النهائي الأخير.