والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين. أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم؟ والله لا يهدي القوم الظالمين. لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم، إلا أن تقطع قلوبهم، والله عليم حكيم .
[ ص: 1710 ] وقصة مسجد الضرار قصة بارزة في غزوة تبوك، لذلك أفرد المنافقون الذين قاموا بها من بين سائر المنافقين، وخصص لهم حديث مستقل بعد انتهاء الاستعراض العام لطوائف الناس في المجتمع المسلم حينذاك.
قال ابن كثير في التفسير: سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب. وكان قد تنصر في الجاهلية. وقرأ علم أهل الكتاب; وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف في الخزرج كبير. فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم الله عز وجل، وكانت العاقبة للمتقين. وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأصيب في ذلك اليوم، فجرح وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشج رأسه - صلوات الله وسلامه عليه - وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله! ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شر!
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيدا طريدا، فنالته هذه الدعوة.. وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومناه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه، ويرده عما هو فيه وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك; فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، فيحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته; وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية! فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال: "إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله - " فلما قفل - عليه السلام - راجعا إلى المدينة من تبوك، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم - مسجد قباء - الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة.. (وكذلك روى - بإسناده - عن وعن ابن عباس سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة).
فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يقوم فيه، وأن يقوم في المسجد الأول - مسجد قباء - الذي أقيم على التقوى من أول يوم، والذي يضم رجالا يحبون أن يتطهروا. والله يحب المطهرين ..
هذا المسجد - مسجد الضرار - الذي اتخذ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر بالله، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، [ ص: 1711 ] الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين..
هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين. تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق!... وتتخذ في صور شتى كثيرة..
ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها; وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها. ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك البيان القوي الصريح:
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا، وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل. وليحلفن: إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا. لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين. أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم؟ والله لا يهدي القوم الظالمين. لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم، إلا أن تقطع قلوبهم، والله عليم حكيم ..
والتعبير القرآني الفريد يرسم هنا صورة حافلة بالحركة، تنبئ عن مصير كل مسجد ضرار يقام إلى جوار مسجد التقوى، ويراد به ما أريد بمسجد الضرار، وتكشف عن نهاية كل محاولة خادعة تخفي وراءها نية خبيثة; وتطمئن العاملين المتطهرين من كل كيد يراد بهم، مهما لبس أصحابه مسوح المصلحين:
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم؟ والله لا يهدي القوم الظالمين ..
فلنقف نتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن.. ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر! لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار.. إنه قائم على شفا جرف هار.. قائم على حافة جرف منهار.. قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار.. إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق!.. إنه ينهار! إنه ينزلق! إنه يهوي! إن الهوة تلتهمه! يا للهول! إنها نار جهنم.. والله لا يهدي القوم الظالمين .. الكافرين المشركين. الذين بنوا هذه البنية ليكيدوا بها هذا الدين!
إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة المثيرة ترسمه وتحركه بضع كلمات!.. ذلك ليطمئن دعاة الحق على مصير دعوتهم في مواجهة دعوات الكيد والكفر والنفاق! وليطمئن البناة على أساس من التقوى كلما واجهوا البناة على الكيد والضرار!
ومشهد آخر يرسمه التعبير القرآني الفريد لآثار مسجد الضرار في نفوس بناته الأشرار; وبناة كل مساجد الضرار:
لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم، إلا أن تقطع قلوبهم، والله عليم حكيم ..
لقد انهار الجرف المنهار. انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه. انهار به في نار جهنم وبئس القرار! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته. بقي فيها "ريبة" وشكا وقلقا وحيرة. وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر. إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور!
[ ص: 1712 ] وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار.. تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية.. وهما تتقابلان في اللوحة الفنية العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد. وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان. فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار.
وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني، في مثل هذا التناسق; بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء..
وتبقى وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف مسجد الضرار وأهله; وفي تصنيف المجتمع إلى تلك المستويات الإيمانية الواضحة; وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كل جوانبه..
لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم، وفي توجيهه، وفي توعيته، وفي إعداده لمهمته الضخمة.. ولن يفهم هذا القرآن إلا وهو يدرس في مجاله الحركي الهائل; ولن يفهمه إلا أناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال.