وهكذا تختم السورة التي بدئت بمثل ما بدئت به من عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. والرجعة إليه في نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون وأغوار النفس وأطواء القرون.. بالتوحيد في العبادة، والتوبة والإنابة والرجعة إلى الله في النهاية.
وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام، والتناسق بين القصص والسياق، بكمال النظرة والفكرة والاتجاه في هذا القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا..
وبعد. فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها - بل المتتبع للقرآن المكي كله - يجد أن هنالك خطا أصيلا ثابتا عريضا عميقا، هو الذي ترتكز عليه; وهو المحور الذي تدور حوله وإليه; ترجع سائر خطوطها، وإليه• [ ص: 1935 ] تشد جميع خيوطها كذلك.. إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله.. وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلا..
وسنحتاج - في التعقيب الإجمالي على هذه السورة - أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا المحور - كما يتجلى في سياق السورة - وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئا ما. ولكننا في هذا التعقيب الإجمالي سنحتاج إلى الإلمام به، ربطا لأجزاء هذا التعقيب الأخير:
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي أرسل به محمد - صلى الله عليه وسلم - أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى التاريخ البشري. أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية..
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. هي التركيز على وإقامة الوعد والوعيد، والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة.. كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من تفسيرها.. الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره.. وتقرير أن هذا هو الدين كله..
فيبقى هنا أن نجلي أولا طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة، وقيمة هذه الطريقة:
إن ترد في صيغتين هكذا: حقيقة توحيد العبادة لله
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ... ..
ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير ... ..
وواضح اختلاف الصيغتين بين الأمر والنهي.. فهل مدلولهما واحد؟. إن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة الله، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه.. ومدلول الصيغة الثانية: النهي عن عبادة غير الله..
والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه.. ولكن الأول "منطوق" والآخر "مفهوم" .. ولقد اقتضت حكمة الله - في بيان هذه الحقيقة الكبيرة - عدم الاكتفاء بالمفهوم، في النهي عن عبادة غير الله. وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل. وإن كان مفهوما ومتضمنا في الأمر الأول!
إن هذا يعطينا إيحاء عميقا بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة، ووزنها في ميزان الله سبحانه، بحيث تستحق ألا توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة الله وتقرير ألا إله يعبد سواه; وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر لا بالمفهوم المتضمن! ولا بالمقتضى اللازم!
كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها.. عبادة الله. وعدم عبادة سواه.. أن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء، وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة الله وتقرير ألا إله يعبد سواه; وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده.. ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون الله، ولا يتركون عبادته، ولكنهم - مع هذا - يعبدون معه غيره فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون!
[ ص: 1936 ] ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالأمر وبالنهي معا; بحيث يؤكد أحدهما الآخر، التوكيد الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة..
وقد تكرر مثل هذا في التعبير القرآني في مواضع شتى; هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها:
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير: ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير .. (هود: 1 - 2)
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه: إني لكم نذير مبين: أن لا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ... (هود: 25 - 26)
وإلى عاد أخاهم هودا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إن أنتم إلا مفترون .. (هود: 50)
وقال الله: لا تتخذوا إلهين اثنين. إنما هو إله واحد. فإياي فارهبون ... (النحل: 51)
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا. ولكن كان حنيفا مسلما. وما كان من المشركين .. (آل عمران: 67)
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا. وما أنا من المشركين ... (الأنعام:79)
.وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد، له دلالته من غير شك. سواء في تجلية قيمة هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات اللازمة، وإنما ينص نصا منطوقا على كل جانب فيها. أو في دلالة هذه الطريقة على علم الله - سبحانه - بطبيعة الكائن الإنساني، وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش، إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو، الذي يتجلى فيه القصد والعمد.. ولله الحكمة البالغة.. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
ثم نقف أمام مدلول مصطلح "العبادة" الوارد في السورة - وفي القرآن كله - لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة.
لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه - في هذه السورة - ما هو مدلول مصطلح "العبادة" الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية; كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسل الكرام، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على ممر الأيام .. فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات:
إن إطلاق مصطلح "العبادات" على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل، في مقابل إطلاق [ ص: 1937 ] مصطلح: "المعاملات" على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل.. إن هذا جاء متأخرا عن عصر نزول القرآن الكريم; ولم يكن هذا التقسيم معروفا في العهد الأول.
ولقد كتبنا من قبل في كتاب "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" شيئا عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه هذه الفقرات:
"إن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و "معاملات" مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة "الفقه" . ومع أنه كان المقصود به - في أول الأمر - مجرد التقسيم "الفني" الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه - مع الأسف - أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور، تبعها - بعد فترة - آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها; إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة" إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط، الذي يتناوله "فقه العبادات" . بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله "فقه المعاملات" ! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي".
"ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى "العبادة" أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولا وأخيرا".
"وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج.."
"ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان.. والنشاط الإنساني لا يكون متصفا بهذا الوصف، محققا لهذه الغاية - التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني - إلا حين يتم هذه النشاط وفق المنهج الرباني; فيتم بذلك إفراد الله - سبحانه - بالألوهية; والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله!
"وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم "العبادات" وخصوها بهذه الصفة - على غير مفهوم التصور الإسلامي - حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها. وهي أنها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم "المعاملات .. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج "العبادة" التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقا لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله - سبحانه - بالألوهية.
"إن ذلك التقسيم - مع مرور الزمن - جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا نشاط "العبادات" - وفق أحكام الإسلام - بينما هم يزاولون كل نشاط "المعاملات" وفق منهج آخر.. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر..! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله!"
"وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين - على هذا النحو - فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين".
"وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني ".
[ ص: 1938 ] فالآن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل في هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية.. بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو "الدينونة" لله وحده في أمره كله، وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في أمره كله. ولقد فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "العبادة" نصا بأنها "الاتباع" وليست هي الشعائر التعبدية، وهو يقول لعدي بن حاتم عن اليهود والنصارى، واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا: " بلى. إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " .. إنما أطلقت لفظة "العبادة" على "الشعائر التعبدية" باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون. صورة لا تستغرق مدلول العبادة، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة! ..