ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء: "إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات; وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة المؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء".
"إن وتوحيد القوامه، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونه الشاملة.. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء".. توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية،
وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا الأمر بيانا في هذا التعقيب الختامي الأخير.
فالآن نبين إجمالا قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء:
ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد - على هذا النحو الشامل - في كيان الكائن الإنساني نفسه من ناحية وجوده الذاتي، وحاجته الفطرية، وتركيبه الإنساني.. أثرها في تصوره.. وأثر هذا التصور في كيانه:
"إن هذا التصور إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل - بكل معاني الشمول - يخاطب الكينونة البشرية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها، جهة تطلب عندها كل شيء، وتتوجه إليها بكل شيء. جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها وتبتغي رضاها جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء".
"كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وشرائعها وقوانينها. وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام".
"عندئذ تتجمع هذه الكينونة.. تتجمع شعورا وسلوكا، وتصورا واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج. [ ص: 1939 ] وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقا; ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق; ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق!
"والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها. لأنها تكون حينئذ في حالة "الوحدة" التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها.. فالوحدة هي حقيقة الخالق - سبحانه - والوحدة هي حقيقة هذا الكون - على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال - والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء - على تنوع الأنواع والأجناس - والوحدة هي حقيقة الإنسان - على تنوع الأفراد والاستعدادات - والوحدة هي غاية الوجود الإنساني - وهي العبادة - على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها - وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود.."
"وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق "الحقيقة" في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية وفي أوج تناسقها - كذلك - مع " حقيقة " هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه; ومع "حقيقة" كل شيء في هذا الوجود، مما تتأثر به وتؤثر فيه.. وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار.
"وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع الله بها في الأرض أدوارا عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كيان التاريخ الإنساني.."
"وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى - وهي لا بد كائنة بإذن الله - سيصنع الله بها الكثير، مهما يكن في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشئ قوة لا تقاوم; لأنها من صميم قوة هذا الكون; وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضا.
"... إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني. وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله - بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله وحين يصبح كل نشاط فيها - صغر أم كبر - جزءا من هذه العبادة; أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه. وهو إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية.. هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه; ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي بلغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها. مقام تلقي الوحي من الله. ومقام الإسراء أيضا:
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ... (الفرقان: 1) .
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله. لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير ... (الإسراء: 1) .
وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية: إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره; وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر - غير النظام الإسلامي - يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية، في صورة من صورها الكثيرة ... [ ص: 1940 ] سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية وبعضها مثل بعض; تخضع الرقاب لغير الله; بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله.
والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة. والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله; في كل جانب من جوانب الحياة!
إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط. ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة:
والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم ... (محمد: 12) ولا يخسر الإنسان شيئا كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.
ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد.. يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم - سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة، أو في جنس حاكم - فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده، ولا يتقيد بشريعة الله ولايتعداها..
ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.. فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء!.. إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية; ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالا لهذا تلك العبودية لصانعي الموضات والأزياء مثلا! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جدا من البشر؟ .. كل الذين يسمونهم متحضرين..! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء - سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات... الخ.. ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها; أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس - في هذه الجاهلية " الحضارية! " لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادا متبتلين! .. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضا؟!
وإن الإنسان ليبصر أحيانا بالمرأة المسكينة، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثارا للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها ردا، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟!
وليس هذا إلا مثلا واحدا للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده; وحين يدينون لغيره من العبيد.. وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر، ولعبودية البشر للبشر!
وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد، في صورة من صور الدينونة.. سواء في صورة حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور..
[ ص: 1941 ] إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي; والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورا منها; وتمثل أوهام العوام المختلفة صورا منها; وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال - وأحيانا من الأولاد! - تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف; ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن.. ومن.. من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء!
وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع - إلى جانب الأعراض والأخلاق - في سبيل هذه الأرباب!
إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ; وعلى تصفيف الشعر وكيه; وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاما بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء!... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.. إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال. ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء!
وأخيرا تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية.. وما من أضحية يقدمها عابد الله لله، إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض..
وتقام أصنام من "الوطن" ومن "القوم" ومن "الجنس" ومن "الطبقة" ومن "الإنتاج"... ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب..
وتدق عليها الطبول; وتنصب لها الرايات; ويدعو عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد. وإلا فالتردد هو الخيانة، وهو العار.. وحتى حين يتعارض العرض مع متطلبات هذه الأصنام، فإن العرض هو الذي يضحى; ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام!
إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله; ليعبد الله وحده في الأرض; وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان.. إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض.. إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله; وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!
وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه; ذو قيمة [ ص: 1942 ] كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة. كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها.
وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء.. وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله، ليقيم من نفسه طاغوتا يعبد الناس لشخصه من دون الله.. احتاج هذا الطاغوت كي يعبد (أي يطاع ويتبع) إلى أن يسخر كل القوى والطاقات; أولا لحماية شخصه. وثانيا لتأليه ذاته. واحتاج إلى حواش وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده، وترتل ذكره، وتنفخ في صورته "العبدية" الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان "الألوهية" العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها. وحشد الجموع - بشتى الوسائل - للتسبيح باسمها، وإقامة طقوس العبادة لها ... !
وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا. لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل. وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد!
وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال - وأرواح أحيانا وأعراض! - لو أنفق بعضها في عمارة الأرض، والإنتاج المثمر، لترقية الحياة البشرية وإغنائها، لعاد على البشرية بالخير الوفير.. ولكن هذه الطاقات والأموال - والأرواح أحيانا والأعراض - لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده وإنما يدينون للطواغيت من دونه.
ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده; وعبادة غيره من دونه.. وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض، والقيم والأخلاق. وفوق الذل والقهر والدنس والعار!
وليس هذا في نظام أرضي دون نظام، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات.
ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم، والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة.
لقد هربت أوربا من الله - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف - وثارت على الله - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية (الديمقراطية) وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية، والأوضاع النيابية البرلمانية، والحريات الصحفية، والضمانات القضائية والتشريعية، وحكم الأغلبية المنتخبة ... إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة.. ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان "الرأسمالية" ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات، وكل تلك التشكيلات، إلى مجرد لافتات، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال، [ ص: 1943 ] فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، في معزل عن الله سبحانه!!!
ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها "رأس المال" و "الطبقة" إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك" ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين!
وفي كل حالة، وفي كل وضع، وفي كل نظام، دان البشر فيه للبشر، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال.
"إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن لله وحده تكن لغير الله.. والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء.. والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية.
من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله - سبحانه - وفي كتبه.. وهذه السورة نموذج من تلك العناية.. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله، في كل زمان وفي كل مكان; وتتعلق بالجاهليات كلها.. جاهليات ما قبل التاريخ، وجاهليات التاريخ. وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد ".
والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها - وهذه السورة نموذج منها - أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية - التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة - هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام; وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام!
إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم. وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد. وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق.. ثم هي بعد - بعد ذلك لا قبله - قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام; وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام. وتنفذ فيها الأحكام.
وكذلك فإن قضية "العبادة" ليست قضية شعائر; وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة.. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين.. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات. واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات.