وبذلك تنتهي الجولة الأولى في الآفاق، والتعقيبات عليها، ليبدأ السياق جولة جديدة في واد آخر في الأنفس والمشاعر والأحياء:
الله يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. له معقبات من بين يديه ومن خلفه - يحفظونه - من أمر الله. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال ..
ويقف الحس مشدوها يرتعش تحت وقع هذه اللمسات العميقة في التصوير، وتحت إيقاع هذه الموسيقى العجيبة في التعبير، يقف مشدوها وهو يقفو مسارب علم الله ومواقعه; وهو يتبع الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الليل; وكل مستخف وكل سارب وكل هامس وكل جاهر؛ وكل أولئك مكشوف تحت المجهر الكاشف، يتتبعه شعاع من علم الله، وتتعقبه حفظة تحصي خواطره ونواياه، ألا إنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ إلى الله، تطمئن في حماه.
وإن المؤمن بالله ليعلم أن علم الله يشمل كل شيء، ولكن وقع هذه القضية الكلية في الحس، لا يقاس إلى وقع مفرداتها كما يعرض السياق بعضها في هذا التصوير العجيب.
وأين أية قضية تجريدية، وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله:
الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. وكل شيء عنده بمقدار ؟
حين يذهب الخيال يتتبع كل أنثى في هذا الكون، المترامي الأطراف، كل أنثى في الوبر والمدر، في البدو والحضر، في البيوت والكهوف والمسارب والغابات، ويتصور علم الله مطلا على كل حمل في أرحام هذه الإناث، وعلى كل قطرة من دم تغيض أو تزداد في تلك الأرحام!
وأين أية قضية تجريدية وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله:
سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ؟
حين يذهب الخيال يتتبع كل هامس وكل جاهر، وكل مستخف وكل سارب في هذا الكون الهائل.
ويتصور علم الله يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه، ويقيد عليه كل شاردة وكل واردة آناء الليل، وأطراف النهار!.
إن اللمسات الأولى في آفاق الكون الهائل ليست بأضخم ولا أعمق من هذه اللمسات الأخيرة في أغوار [ ص: 2049 ] النفس والغيب ومجاهيل السرائر، وإن هذه لكفء لتلك في مجال التقابل والتناظر.
ونستعرض شيئا من بدائع التعبير والتصوير في تلك الآيات:
الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. وكل شيء عنده بمقدار .. فلما أن صور العلم بالغيض والزيادة في مكنونات الأرحام، عقب بأن كل شيء عنده بمقدار، والتناسق واضح بين كلمة مقدار وبين النقص والزيادة، والقضية كلها ذات علاقة بإعادة الخلق فيما سبق من ناحية الموضوع، كما أنها من ناحية الشكل والصورة ذات علاقة بما سيأتي بعدها من الماء الذي تسيل به الأودية "بقدرها" في السيولة والتقدير، كما أن في الغيض والزيادة تلك المقابلة المعهودة في جو السورة على الإطلاق.
عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ..
ولفظة "الكبير" ولفظة "المتعال" كلتاهما تلقي ظلها في الحس، ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى، إنه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره، وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله، وكذلك "المتعال".. تراني قلت شيئا؟ لا، ولا أي مفسر آخر للقرآن وقف أمام "الكبير المتعال"!.
سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار .. والتقابل واضح في العبارة، إنما تستوقفنا كلمة "سارب" وهي تكاد بظلها تعطي عكس معناها، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء، والسارب: الذاهب.فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء، هذه النعومة في جرس اللفظ وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو، جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار، فاختار اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء!.
له معقبات من بين يديه ومن خلفه - يحفظونه - من أمر الله ..
والحفظة التي تتعقب كل إنسان، وتحفظ كل شاردة وكل واردة وكل خاطرة وكل خالجة، والتي هي من أمر الله، لا يتعرض لها السياق هنا بوصف ولا تعريف، أكثر من أنها من أمر الله .. فلا نتعرض نحن لها: ما هي؟ وما صفاتها؟ وكيف تتعقب؟ وأين تكون؟ ولا نذهب بجو الخفاء والرهبة والتعقب الذي يسبغه السياق، فذلك هو المقصود هنا; وقد جاء التعبير بقدره; ولم يجئ هكذا جزافا; وكل من له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذا الجو الغامض بالكشف والتفصيل!
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم؛ فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة، إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم، وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقا له في الزمان بالقياس إليهم.
وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة; فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر; وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم، والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل.وهو يحمل كذلك - إلى جانب التبعة - دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة [ ص: 2050 ] الله، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه.
وبعد تقرير المبدإ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء; لأنهم - حسب المفهوم من الآية - غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء:
وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ..
يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم - إذا استحقوه بما في أنفسهم - ولا يعصمهم منه وال يناصرهم..