طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى. تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا. الرحمن على العرش استوى. له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى. الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى .
مطلع رخي ندي. يبدأ بالحروف المقطعة: "طا. ها" للتنبيه إلى أن هذه السورة. كهذا القرآن - مؤلفة من مثل هذه الحروف على نحو ما أوردنا في مطالع السور. ويختار هنا حرفان ينتهيان بإيقاع كإيقاع السورة، ويقصران ولا يمدان لتنسيق الإيقاع كذلك.
يتلو هذين الحرفين حديث عن القرآن - كما هو الحال في السور التي تبدأ بالحروف المقطعة - في صورة خطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى .. ما أنزلنا عليك القرآن ليؤدي إلى شقائك به أو بسببه. ما أنزلناه لتشقى بتلاوته والتعبد به حتى يجاوز ذلك طاقتك، ويشق عليك; فهو ميسر للذكر، لا تتجاوز تكاليفه طاقة البشر، ولا يكلفك إلا ما في وسعك، ولا يفرض عليك إلا ما في طوقك والتعبد به في حدود الطاقة نعمة لا شقوة، وفرصة للاتصال بالملإ الأعلى، واستمداد القوة والطمأنينة، والشعور بالرضى والأنس والوصول..
وما أنزلناه عليك لتشقى مع الناس حين لا يؤمنون به. فلست مكلفا أن تحملهم على الإيمان حملا; ولا أن تذهب نفسك عليهم حسرات; وما كان هذا القرآن إلا للتذكير والإنذار:
إلا تذكرة لمن يخشى .
والذي يخشى يتذكر حين يذكر، ويتقي ربه فيستغفر. وعند هذا تنتهي وظيفة الرسول - صلى الله عليه [ ص: 2328 ] وسلم - فلا يكلف فتح مغاليق القلوب، والسيطرة على الأفئدة والنفوس. إنما ذلك إلى الله الذي أنزل هذا القرآن. وهو المهيمن على الكون كله، المحيط بخفايا القلوب والأسرار:
تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا. الرحمن على العرش استوى. له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ..
فالذي نزل هذا القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات.. السماوات العلا.. فالقرآن ظاهرة كونية كالأرض والسماوات. تنزلت من الملإ الأعلى. ويربط السياق بين النواميس التي تحكم الكون والتي ينزل بها القرآن; كما ينسق ظل السماوات العلا مع الأرض، وظل القرآن الذي ينزل من الملإ الأعلى إلى الأرض..
والذي نزل القرآن من الملإ الأعلى، وخلق الأرض والسماوات العلا، هو الرحمن فما نزله على عبده ليشقى. وصفة الرحمة هي التي تبرز هنا للإلمام بهذا المعنى. وهو المهيمن على الكون كله. على العرش استوى والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء. فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول إلا التذكرة لمن يخشى.
ومع الهيمنة والاستعلاء الملك والإحاطة:
له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ..
والمشاهد الكونية تستخدم في التعبير لإبراز معنى الملك والإحاطة في صورة يدركها التصور البشري. والأمر أكبر من ذلك جدا. ولله ما في الوجود كله وهو أكبر مما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
وعلم الله يحيط بما يحيط به ملكه:
وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ..
وينسق التعبير بين الظل الذي تلقيه الآية: له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى . والظل الذي تلقيه الآية بعدها: وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ينسق بين الظاهر الجاهر في الكون، والظاهر الجاهر من القول. وبين المستور المخبوء تحت الثرى والمستور المخبوء في الصدور: السر وأخفى. على طريقة التنسيق في التصوير. والسر خاف. وما هو أخفى من السر تصوير لدرجات الخفاء والاستتار، كما هو الحال تحت أطباق الثرى..
والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - لطمأنة قلبه بأن ربه معه يسمعه، ولا يتركه وحده يشقى بهذا القرآن، ويواجه الكافرين بلا سند، فإذا كان يدعوه جهرا فإنه يعلم السر وأخفى. والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسره ونجواه، يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب فلا يستوحش من العزلة بين المكذبين المناوئين; ولا يشعر بالغربة بين المخالفين له في العقيدة والشعور.
ويختم هذا المطلع بإعلان وحدانية الله بعد إعلان هيمنته وملكيته وعلمه:
الله لا إله إلا هو. له الأسماء الحسنى ..
و "الحسنى" تشارك في تنسيق الإيقاع: كما تشارك في تنسيق الظلال. ظلال الرحمة والقرب. والرعاية، التي تغمر جو هذا المطلع وجو السورة كله.
[ ص: 2329 ] ثم يقص الله على رسوله حديث موسى ، نموذجا لرعايته للمختارين لحمل دعوته: وقصة موسى هي أكثر قصص المرسلين ورودا في القرآن. وهي تعرض في حلقات تناسب موضوع السورة التي تعرض فيها وجوها وظلها. وقد وردت حلقات منها حتى الآن في سورة البقرة. وسورة المائدة. وسورة الأعراف. وسورة يونس. وسورة الإسراء. وسورة الكهف.. وذلك غير الإشارات إليها في سور أخرى.
وما جاء منها في المائدة كان حلقة واحدة: حلقة وقوف بني إسرائيل أمام الأرض المقدسة لا يدخلون لأن فيها قوما جبارين. وفي سورة الكهف كانت كذلك حلقة واحدة: حلقة لقاء موسى للعبد الصالح وصحبته فترة..
فأما في البقرة والأعراف ويونس وفي هذه السورة - طه - فقد وردت منها حلقات كثيرة. ولكن هذه الحلقات تختلف في سورة عنها في الأخرى. تختلف الحلقات المعروضة، كما يختلف الجانب الذي تعرض منه تنسيقا له مع اتجاه السورة التي يعرض فيها.
في البقرة سبقتها قصة آدم وتكريمه في الملإ الأعلى، وعهد الله إليه بخلافة الأرض ونعمته عليه بعد ما غفر له.. فجاءت قصة موسى وبني إسرائيل تذكيرا لبني إسرائيل بنعمة الله عليهم وعهده إليهم وإنجائهم من فرعون وملئه. واستسقائهم وتفجير الينابيع لهم وإطعامهم المن والسلوى، وذكرت مواعدة موسى وعبادتهم للعجل من بعده، ثم غفرانه لهم. وعهده إليهم تحت الجبل. ثم عدوانهم في السبت. وقصة البقرة.
وفي الأعراف سبقها الإنذار وعواقب المكذبين بالآيات قبل موسى - عليه السلام - فجاءت قصة موسى تعرض ابتداء من حلقة الرسالة، وتعرض فيها آيات العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وتعرض حلقة السحرة بالتفصيل. وخاتمة فرعون وملئه المكذبين. ثم ما كان من بني إسرائيل بعد ذلك من اتخاذ العجل في غيبة موسى . وتنتهي القصة بإعلان فيها وراثة رحمة الله وهداه للذين يتبعون الرسول النبي الأمي.
وفي يونس سبقها عرض مصارع المكذبين. فجاءت قصة موسى من حلقة الرسالة، وعرض مشهد السحرة، ومصرع فرعون وقومه بالتفصيل.
أما هنا في طه: فقد سبقها مطلع السورة يشف عن رحمة الله ورعايته لمن يصطفيهم لحمل رسالته وتبليغ دعوته. فجاءت القصة مظللة بهذا الظل تبدأ بمشهد المناجاة; وتضمن نماذج من رعاية الله لموسى عليه السلام وتثبيته وتأييده; وتشير إلى سبق هذه الرعاية للرسالة، فقد كانت ترافقه في طفولته، فتحرسه وتتعهده: وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ..
فلنأخذ في تتبع حلقات القصة كما وردت في السياق.