ويمضي السياق إلى نموذج آخر من الناس - إن كان يواجه الدعوة يومذاك فهو نموذج مكرور في كل جيل - ذلك الذي يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة; ويظنها صفقة في سوق التجارة:
nindex.php?page=treesubj&link=28993_28902_30563_30564_32523nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين. nindex.php?page=treesubj&link=28993_19731_34088_34131nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه. ذلك هو الضلال البعيد. nindex.php?page=treesubj&link=28993_34131nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13يدعو لمن ضره أقرب من نفعه. لبئس المولى ولبئس العشير ..
إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع; وتتهاوى من حوله الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول.
هذه قيمة العقيدة في حياة المؤمن. ومن ثم يجب أن يستوي عليها، متمكنا منها، واثقا بها، لا يتلجلج فيها، ولا ينتظر عليها جزاء، فهي في ذاتها جزاء. ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند عليه. أجل هي في ذاتها جزاء على تفتح القلب للنور، وطلبه للهدى. ومن ثم يهبه الله العقيدة ليأوي إليها، ويطمئن بها. هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله، تتجاذبهم الرياح، وتتقاذفهم الزوابع، ويستبد بهم القلق. بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله، مطمئن بهذا الاتصال.
أما ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11فإن أصابه خير اطمأن به وقال: إن الإيمان خير. فها هو ذا يجلب النفع، ويدر الضرع، وينمي الزرع، ويربح التجارة، ويكفل الرواج
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة .. خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه. وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له.
والتعبير القرآني يصوره في عبادته لله "على حرف" غير متمكن من العقيدة، ولا متثبت في العبادة. يصوره في حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى. ومن ثم ينقلب على وجهه عند مس الفتنة، ووقفته المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب!
إن حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة، ولكنه لا يصلح للعقيدة. فالعقيدة حق يعتنق لذاته، بانفعال القلب المتلقي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقى. والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها، بما فيها
[ ص: 2413 ] من طمأنينة وراحة ورضى، فهي لا تطلب جزاءها خارجا عن ذاتها.
والمؤمن يعبد ربه شكرا له على هدايته إليه، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به. فإن كان هنالك جزاء فهو فضل من الله ومنة. استحقاقا على الإيمان أو العبادة!
والمؤمن لا يجرب إلهه. فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجربه عليه راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء. وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار، إنما هي إسلام المخلوق للخالق، صاحب الأمر فيه، ومصدر وجوده من الأساس.
والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11ذلك هو الخسران المبين .. يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى. إلى جوار خسارة المال أو الولد، أو الصحة، أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره.. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان. فيا له من خسران!
وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد الله على حرف؟ إلى أين يتجه بعيدا عن الله؟ إنه
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه .. يدعو صنما أو وثنا على طريقة الجاهلية الأولى. ويدعو شخصا أو جهة أو مصلحة على طريقة الجاهليات المتناثرة في كل زمان ومكان، كلما انحرف الناس عن الاتجاه إلى الله وحده، والسير على صراطه ونهجه.. فما هذا كله؟ إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12ذلك هو الضلال البعيد المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء..
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13يدعو لمن ضره أقرب من نفعه من وثن أو شيطان، أو سند من بني الإنسان.. وهذا كله لا يملك ضرا ولا نفعا; وهو أقرب لأن ينشأ عنه الضر. وضره أقرب من نفعه. ضره في عالم الضمير بتوزيع القلب، وإثقاله بالوهم وإثقاله بالذل. وضره في عالم الواقع وكفى بما يعقبه في الآخرة من ضلال وخسران
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13لبئس المولى ذلك الضعيف لا سلطان له في ضر أو نفع
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13ولبئس العشير ذلك الذي ينشأ عنه الخسران. يستوي في ذلك المولى والعشير من الأصنام والأوثان، والمولى والعشير من بني الإنسان، ممن يتخذهم بعض الناس آلهة أو أشباه آلهة في كل زمان ومكان!
والله يدخر للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في الفتنة والابتلاء:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=14إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. إن الله يفعل ما يريد ..
فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء.
فأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة; ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة. فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء; وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=15من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء، ثم ليقطع، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ !
وهو مشهد متحرك لغيظ النفس، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه، عند ما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله.
والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في الفرج،
[ ص: 2414 ] ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء.
فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق. ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق.. ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما يغيظه!
ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله. ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله. ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه بغير عون الله.. فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله ...
بمثل هذا البيان لحالات الهدى والضلال، ولنماذج الهدى والضلال، أنزل الله هذا القرآن ليهتدي به من يفتح له قلبه، فيقسم الله له الهداية:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=16وكذلك أنزلناه آيات بينات، وأن الله يهدي من يريد ..
وإرادة الله قد قررت سبق الهدى والضلال. فمن طلب الهدى تحققت إرادة الله بهدايته، وفق سنته، وكذلك من طلب الضلال. إنما يفرد هنا حالة الهدى بالذكر، بمناسبة ما في الآيات من بيان يقتضي الهدى في القلب المستقيم.
فأما الفرق المختلفة في الاعتقاد فأمرها إلى الله يوم القيامة، وهو العليم بكل ما في عقائدها من حق أو باطل، ومن هدى أو ضلال:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=17إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا.. إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد ..
وقد سبق تعريف هذه الفرق. وهي تذكر هنا بمناسبة أن الله يهدي من يريد، وهو أعلم بالمهتدين والضالين، وعليه حساب الجميع، والأمر إليه في النهاية، وهو على كل شيء شهيد.
وإذا كان الناس بتفكيرهم ونزعاتهم وميولهم، فإن الكون كله - فيما عداهم - يتجه بفطرته إلى خالقه، يخضع لناموسه، ويسجد لوجهه:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب. ومن يهن الله فما له من مكرم. إن الله يفعل ما يشاء ..
ويتدبر القلب هذا النص، فإذا حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك. وإذا حشد من الأفلاك والأجرام. مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم. وإذا حشد من الجبال والشجر والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان.. إذا بتلك الحشود كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله، وتتجه إليه وحده دون سواه. تتجه إليه وحده في وحدة واتساق. إلا ذلك الإنسان فهو وحده الذي يتفرق:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب فيبدو هذا الإنسان عجيبا في ذلك الموكب المتناسق.
وهنا يقرر أن من يحق عليه العذاب فقد حق عليه الهوان:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18ومن يهن الله فما له من مكرم .. فلا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزة إلا بعزة الله. وقد ذل وهان من دان لغير الديان.
[ ص: 2415 ] ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=19هذان خصمان اختصموا في ربهم. فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رءوسهم الحميم، nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=20يصهر به ما في بطونهم والجلود nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=21ولهم مقامع من حديد، nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=22كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها. وذوقوا عذاب الحريق. nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=23إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
إنه مشهد عنيف صاحب، حافل بالحركة، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير. فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده..
هذه ثياب من النار تقطع وتفصل! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس! وهذه سياط من حديد أحمته النار.. وهذا هو العذاب يشتد، ويتجاوز الطاقة، فيهب
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=19فالذين كفروا من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا "الغم" وها هم أولاء يردون بعنف، ويسمعون التأنيب:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=22وذوقوا عذاب الحريق ..
ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف، ليبدأ في العرض من جديد!
ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر، الذي يستطرد السياق إلى عرضه. فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم. فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار. وملابسهم لم تقطع من النار، إنما فصلت من الحرير. ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ وقد هداهم الله إلى الطيب من القول، وهداهم إلى صراط الحميد. فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق.. والهداية إلى الطيب من القول، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم. نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق.
وتلك عاقبة الخصام في الله. فهذا فريق وذلك فريق.. فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير..
وَيَمْضِي السِّيَاقُ إِلَى نَمُوذَجٍ آخَرَ مِنَ النَّاسِ - إِنْ كَانَ يُوَاجِهُ الدَّعْوَةَ يَوْمَذَاكَ فَهُوَ نَمُوذَجٌ مَكْرُورٌ فِي كُلِّ جِيلٍ - ذَلِكَ الَّذِي يَزِنُ الْعَقِيدَةَ بِمِيزَانِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ; وَيَظُنُّهَا صَفْقَةً فِي سُوقِ التِّجَارَةِ:
nindex.php?page=treesubj&link=28993_28902_30563_30564_32523nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ. ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. nindex.php?page=treesubj&link=28993_19731_34088_34131nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ. ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. nindex.php?page=treesubj&link=28993_34131nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ..
إِنَّ الْعَقِيدَةَ هِيَ الرَّكِيزَةُ الثَّابِتَةُ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ، تَضْطَرِبُ الدُّنْيَا مِنْ حَوْلِهِ فَيَثْبُتُ هُوَ عَلَى هَذِهِ الرَّكِيزَةِ وَتَتَجَاذَبُهُ الْأَحْدَاثُ وَالدَّوَافِعُ فَيَتَشَبَّثُ هُوَ بِالصَّخْرَةِ الَّتِي لَا تَتَزَعْزَعُ; وَتَتَهَاوَى مِنْ حَوْلِهِ الْأَسْنَادُ فَيَسْتَنِدُ هُوَ إِلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي لَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ.
هَذِهِ قِيمَةُ الْعَقِيدَةِ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ. وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَيْهَا، مُتَمَكِّنًا مِنْهَا، وَاثِقًا بِهَا، لَا يَتَلَجْلَجُ فِيهَا، وَلَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهَا جَزَاءً، فَهِيَ فِي ذَاتِهَا جَزَاءٌ. ذَلِكَ أَنَّهَا الْحِمَى الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ، وَالسَّنَدُ الَّذِي يَسْتَنِدُ عَلَيْهِ. أَجَلْ هِيَ فِي ذَاتِهَا جَزَاءٌ عَلَى تَفَتُّحِ الْقَلْبِ لِلنُّورِ، وَطَلَبِهِ لِلْهُدَى. وَمِنْ ثَمَّ يَهَبُهُ اللَّهُ الْعَقِيدَةَ لِيَأْوِيَ إِلَيْهَا، وَيُطَمْئِنَ بِهَا. هِيَ فِي ذَاتِهَا جَزَاءٌ يُدْرِكُ الْمُؤْمِنُ قِيمَتَهُ حِينَ يَرَى الْحَيَارَى الشَّارِدِينَ مِنْ حَوْلِهِ، تَتَجَاذَبُهُمُ الرِّيَاحُ، وَتَتَقَاذَفُهُمُ الزَّوَابِعُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِمُ الْقَلَقُ. بَيْنَمَا هُوَ بِعَقِيدَتِهِ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ، ثَابِتُ الْقَدَمِ، هَادِئُ الْبَالِ، مَوْصُولٌ بِاللَّهِ، مُطَمْئِنٌّ بِهَذَا الِاتِّصَالِ.
أَمَّا ذَلِكَ الصِّنْفُ مِنَ النَّاسِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنْهُ السِّيَاقُ فَيَجْعَلُ الْعَقِيدَةَ صَفْقَةً فِي سُوقِ التِّجَارَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَقَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ خَيْرٌ. فَهَا هُوَ ذَا يَجْلِبُ النَّفْعَ، وَيَدُرُّ الضَّرْعَ، وَيُنَمِّي الزَّرْعَ، وَيُرْبِحُ التِّجَارَةَ، وَيَكْفُلُ الرَّوَاجَ
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ .. خَسِرَ الدُّنْيَا بِالْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَهُ فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَمَاسَكْ لَهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى اللَّهِ فِيهِ. وَخَسِرَ الْآخِرَةَ بِانْقِلَابِهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَانْكِفَائِهِ عَنْ عَقِيدَتِهِ، وَانْتِكَاسِهِ عَنِ الْهُدَى الَّذِي كَانَ مُيَسَّرًا لَهُ.
وَالتَّعْبِيرُ الْقُرْآنِيُّ يُصَوِّرُهُ فِي عِبَادَتِهِ لِلَّهِ "عَلَى حَرْفٍ" غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنَ الْعَقِيدَةِ، وَلَا مُتَثَبِّتٍ فِي الْعِبَادَةِ. يُصَوِّرُهُ فِي حَرَكَةٍ جَسَدِيَّةٍ مُتَأَرْجِحَةٍ قَابِلَةٍ لِلسُّقُوطِ عِنْدَ الدُّفْعَةِ الْأُولَى. وَمِنْ ثَمَّ يَنْقَلِبُ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ مَسِّ الْفِتْنَةِ، وَوَقْفَتُهُ الْمُتَأَرْجِحَةُ تُمَهِّدُ مِنْ قَبْلُ لِهَذَا الِانْقِلَابِ!
إِنَّ حِسَابَ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ يَصْلُحُ لِلتِّجَارَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعَقِيدَةِ. فَالْعَقِيدَةُ حَقٌّ يُعْتَنَقُ لِذَاتِهِ، بِانْفِعَالِ الْقَلْبِ الْمُتَلَقِّي لِلنُّورِ وَالْهُدَى الَّذِي لَا يَمْلِكُ إِلَّا أَنْ يَنْفَعِلَ بِمَا يَتَلَقَّى. وَالْعَقِيدَةُ تَحْمِلُ جَزَاءَهَا فِي ذَاتِهَا، بِمَا فِيهَا
[ ص: 2413 ] مِنْ طُمَأْنِينَةِ وَرَاحَةٍ وَرِضًى، فَهِيَ لَا تَطْلُبُ جَزَاءَهَا خَارِجًا عَنْ ذَاتِهَا.
وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ شُكْرًا لَهُ عَلَى هِدَايَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَلَى اطْمِئْنَانِهِ لِلْقُرْبِ مِنْهُ وَالْأُنْسِ بِهِ. فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ جَزَاءٌ فَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَمِنَّةٌ. اسْتِحْقَاقًا عَلَى الْإِيمَانِ أَوِ الْعِبَادَةِ!
وَالْمُؤْمِنُ لَا يُجَرِّبُ إِلَهَهُ. فَهُوَ قَابِلٌ ابْتِدَاءً لِكُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ لَهُ، مُسْتَسْلِمٌ ابْتِدَاءً لِكُلِّ مَا يُجَرِّبُهُ عَلَيْهِ رَاضٍ ابْتِدَاءً بِكُلِّ مَا يَنَالُهُ مِنَ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَلَيْسَتْ هِيَ صَفْقَةٌ فِي السُّوقِ بَيْنَ بَائِعٍ وَشَارٍ، إِنَّمَا هِيَ إِسْلَامُ الْمَخْلُوقِ لِلْخَالِقِ، صَاحِبِ الْأَمْرِ فِيهِ، وَمَصْدَرِ وُجُودِهِ مِنَ الْأَسَاسِ.
وَالَّذِي يَنْقَلِبُ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ مَسِّ الْفِتْنَةِ يَخْسَرُ الْخَسَارَةَ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا رَيْبَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=11ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ .. يَخْسَرُ الطُّمَأْنِينَةَ وَالثِّقَةَ وَالْهُدُوءَ وَالرِّضَى. إِلَى جِوَارِ خَسَارَةِ الْمَالِ أَوِ الْوَلَدِ، أَوِ الصِّحَّةِ، أَوْ أَعْرَاضِ الْحَيَاةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْتِنُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ، وَيَبْتَلِي بِهَا ثِقَتَهُمْ فِيهِ، وَصَبْرَهُمْ عَلَى بَلَائِهِ، وَإِخْلَاصَهَمْ أَنْفُسِهِمْ لَهُ، وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِقَبُولِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.. وَيَخْسَرُ الْآخِرَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ وَقُرْبَى وَرِضْوَانٍ. فَيَا لَهُ مِنْ خُسْرَانٍ!
وَإِلَى أَيْنَ يَتَّجِهُ هَذَا الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ؟ إِلَى أَيْنَ يَتَّجِهُ بَعِيدًا عَنِ اللَّهِ؟ إِنَّهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ .. يَدْعُو صَنَمًا أَوْ وَثَنًا عَلَى طَرِيقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى. وَيَدْعُو شَخْصًا أَوْ جِهَةً أَوْ مَصْلَحَةً عَلَى طَرِيقَةِ الْجَاهِلِيَّاتِ الْمُتَنَاثِرَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، كُلَّمَا انْحَرَفَ النَّاسُ عَنِ الاتِّجَاهِ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَالسَّيْرِ عَلَى صِرَاطِهِ وَنَهْجِهِ.. فَمَا هَذَا كُلَّهُ؟ إِنَّهُ الضَّلَالُ عَنِ الْمُتَّجَهِ الْوَحِيدِ الَّذِي يُجْدِي فِيهِ الدُّعَاءُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=12ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ الْمُغْرِقُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْهُدَى وَالِاهْتِدَاءِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ مِنْ وَثَنٍ أَوْ شَيْطَانٍ، أَوْ سَنَدٍ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ.. وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا; وَهُوَ أَقْرَبُ لِأَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ الضُّرُّ. وَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. ضُرُّهُ فِي عَالَمِ الضَّمِيرِ بِتَوْزِيعِ الْقَلْبِ، وَإِثْقَالِهِ بِالْوَهْمِ وَإِثْقَالِهِ بِالذُّلِّ. وَضُرُّهُ فِي عَالَمِ الْوَاقِعِ وَكَفَى بِمَا يُعْقِبُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ ضَلَالٍ وَخُسْرَانٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13لَبِئْسَ الْمَوْلَى ذَلِكَ الضَّعِيفُ لَا سُلْطَانَ لَهُ فِي ضُرٍّ أَوْ نَفْعٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=13وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ذَلِكَ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الْخُسْرَانُ. يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَوْلَى وَالْعَشِيرُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَالْمَوْلَى وَالْعَشِيرُ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ، مِمَّنْ يَتَّخِذُهُمْ بَعْضُ النَّاسِ آلِهَةً أَوْ أَشْبَاهَ آلِهَةٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ!
وَاللَّهُ يَدَّخِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ عَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كُلِّهِ، حَتَّى لَوْ خَسِرُوا ذَلِكَ الْعَرْضَ كُلَّهُ فِي الْفِتْنَةِ وَالِابْتِلَاءِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=14إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ..
فَمَنْ مَسَّهُ الضُّرُّ فِي فِتْنَةٍ مِنَ الْفِتَنِ، وَفِي ابْتِلَاءٍ مِنَ الابْتِلَاءَاتِ، فَلْيَثْبُتْ وَلَا يَتَزَعْزَعْ، وَلْيَسْتَبْقِ ثِقَتَهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى كَشْفِ الضَّرَّاءِ، وَعَلَى الْعِوَضِ وَالْجَزَاءِ.
فَأَمَّا مِنْ يَفْقِدُ ثِقَتَهُ فِي نَصْرِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ; وَيَقْنَطُ مِنْ عَوْنِ اللَّهِ لَهُ فِي الْمِحْنَةِ حِينَ تَشْتَدُّ الْمِحْنَةُ. فَدُونَهُ فَلْيَفْعَلْ بِنَفْسِهِ مَا يَشَاءُ; وَلْيَذْهَبْ بِنَفْسِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، فَمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُبَدِّلٍ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=15مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ لِيَقْطَعْ، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ !
وَهُوَ مَشْهَدٌ مُتَحَرِّكٌ لِغَيْظِ النَّفْسِ، وَلِلْحَرَكَاتِ الْمُصَاحِبَةِ لِذَلِكَ الْغَيْظِ، يُجَسِّمُ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي يَبْلُغُ فِيهَا الضِّيقُ بِالنَّفْسِ أَقْصَاهُ، عِنْدَ مَا يَنْزِلُ بِهَا الضُّرُّ وَهِيَ عَلَى غَيْرِ اتِّصَالٍ بِاللَّهِ.
وَالَّذِي يَيْأَسُ فِي الضُّرِّ مِنْ عَوْنِ اللَّهِ يَفْقِدُ كُلَّ نَافِذَةٍ مُضِيئَةٍ، وَكُلَّ نَسَمَةٍ رَخِيَّةٍ، وَكُلَّ رَجَاءٍ فِي الْفَرَجِ،
[ ص: 2414 ] وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الضِّيقُ، وَيَثْقُلُ عَلَى صَدْرِهِ الْكَرْبُ، فَيَزِيدُ هَذَا كُلُّهُ مِنْ وَقْعِ الْكَرْبِ وَالْبَلَاءِ.
فَمَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيُمْدَدْ بِحَبَلٍ إِلَى السَّمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَوْ يَخْتَنِقُ. ثُمَّ لْيَقْطَعِ الْحَبْلَ فَيَسْقُطُ أَوْ لِيَقْطَعِ النَّفْسَ فَيَخْتَنِقُ.. ثُمَّ لْيَنْظُرْ هَلْ يُنْقِذُهُ تَدْبِيرُهُ ذَاكَ مِمَّا يَغِيظُهُ!
أَلَّا إِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى احْتِمَالِ الْبَلَاءِ إِلَّا بِالرَّجَاءِ فِي نَصْرِ اللَّهِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْفَرَجِ إِلَّا بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الضُّرِّ، وَالْكِفَاحِ لِلْخَلَاصِ إِلَّا بِالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ. وَكُلُّ حَرَكَةٍ يَائِسَةٍ لَا ثَمَرَةَ لَهَا وَلَا نَتِيجَةَ إِلَّا زِيَادَةُ الْكَرْبِ، وَمُضَاعَفَةُ الشُّعُورِ بِهِ، وَالْعَجْزُ عَنْ دَفْعِهِ بِغَيْرِ عَوْنِ اللَّهِ.. فَلْيَسْتَبْقِ الْمَكْرُوبُ تِلْكَ النَّافِذَةَ الْمُضِيئَةَ الَّتِي تَنَسَّمُ عَلَيْهِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ...
بِمِثْلِ هَذَا الْبَيَانِ لِحَالَاتِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَلِنَمَاذِجِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا الْقُرْآنَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ مَنْ يَفْتَحُ لَهُ قَلْبَهُ، فَيَقْسِمُ اللَّهُ لَهُ الْهِدَايَةَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=16وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ..
وَإِرَادَةُ اللَّهِ قَدْ قَرَّرَتْ سَبْقَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. فَمَنْ طَلَبَ الْهُدَى تَحَقَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ بِهِدَايَتِهِ، وَفْقَ سَنَّتِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَبَ الضَّلَالَ. إِنَّمَا يُفْرَدُ هُنَا حَالَةَ الْهُدَى بِالذِّكْرِ، بِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَاتِ مِنْ بَيَانٍ يَقْتَضِي الْهُدَى فِي الْقَلْبِ الْمُسْتَقِيمِ.
فَأَمَّا الْفَرْقُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الِاعْتِقَادِ فَأَمْرُهَا إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ مَا فِي عَقَائِدِهَا مَنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ، وَمَنْ هَدَى أَوْ ضَلَالٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=17إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَالصَّابِئِينَ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسَ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ..
وَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُ هَذِهِ الْفِرَقِ. وَهِيَ تَذْكُرُ هُنَا بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ، وَعَلَيْهِ حِسَابُ الْجَمِيعِ، وَالْأَمْرُ إِلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
وَإِذَا كَانَ النَّاسُ بِتَفْكِيرِهِمْ وَنَزَعَاتِهِمْ وَمُيُولِهِمْ، فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ - فِيمَا عَدَاهُمْ - يَتَّجِهُ بِفِطْرَتِهِ إِلَى خَالِقِهِ، يَخْضَعُ لِنَامُوسِهِ، وَيَسْجُدُ لِوَجْهِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ، وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، وَكَثِيرٌ مَنْ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهَ فَمَا لَهُ مَنْ مُكْرِمٍ. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ..
وَيَتَدَبَّرُ الْقَلْبُ هَذَا النَّصَّ، فَإِذَا حَشَدَ مِنَ الْخَلَائِقِ مِمَّا يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ وَمِمَّا لَا يُدْرِكُ. وَإِذَا حَشَدَ مِنَ الْأَفْلَاكِ وَالْأَجْرَامِ. مِمَّا يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُ. وَإِذَا حَشَدَ مِنَ الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي يَعِيشُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ.. إِذَا بِتِلْكَ الْحُشُودِ كُلِّهَا فِي مَوْكِبٍ خَاشِعٍ تَسْجُدُ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَتَتَّجِهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ دُونَ سِوَاهُ. تَتَّجِهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي وَحْدَةٍ وَاتِّسَاقٍ. إِلَّا ذَلِكَ الْإِنْسَانَ فَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَتَفَرَّقُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَيَبْدُو هَذَا الْإِنْسَانُ عَجِيبًا فِي ذَلِكَ الْمَوْكِبِ الْمُتَنَاسِقِ.
وَهُنَا يُقَرِّرُ أَنَّ مَنْ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِ الْهَوَانُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ .. فَلَا كَرَامَةَ إِلَّا بِإِكْرَامِ اللَّهِ، وَلَا عَزَّةَ إِلَّا بِعِزَّةِ اللَّهِ. وَقَدْ ذَلَّ وَهَانَ مَنْ دَانَ لِغَيْرِ الدَّيَّانِ.
[ ص: 2415 ] ثُمَّ مَشْهَدٌ مِنْ مَشَاهِدِ الْقِيَامَةِ يَتَجَلَّى فِيهِ الْإِكْرَامُ وَالْهَوَانُ، فِي صُورَةِ وَاقِعٍ يَشْهَدُ كَأَنَّهُ مَعْرُوضٌ لِلْعَيَانِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=19هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=20يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=21وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=22كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا - مِنْ غَمٍّ - أُعِيدُوا فِيهَا. وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=23إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ .
إِنَّهُ مَشْهَدٌ عَنِيفٌ صَاحِبٌ، حَافِلٌ بِالْحَرَكَةِ، مُطَوَّلٌ بِالتَّخْيِيلِ الَّذِي يَبْعَثُهُ فِي النَّفْسِ نَسَقُ التَّعْبِيرِ. فَلَا يَكَادُ الْخَيَالُ يَنْتَهِي مِنْ تَتَبُّعِهِ فِي تَجَدُّدِهِ..
هَذِهِ ثِيَابٌ مِنَ النَّارِ تُقْطَعُ وَتَفْصَلُ! وَهَذَا حَمِيمٌ سَاخِنٌ يَصُبُّ مِنْ فَوْقٍ الرُّؤُوسِ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي الْبُطُونِ وَالْجُلُودِ عِنْدَ صَبِّهِ عَلَى الرُّؤُوسِ! وَهَذِهِ سِيَاطٌ مِنْ حَدِيدٍ أَحْمَتْهُ النَّارُ.. وَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ يَشْتَدُّ، وَيَتَجَاوَزُ الطَّاقَةَ، فَيَهُبُّ
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=19فَالَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْوَهَجِ وَالْحَمِيمِ وَالضَّرْبِ الْأَلِيمِ يَهُمُّونَ بِالْخُرُوجِ مِنْ هَذَا "الْغَمِّ" وَهَا هُمْ أُولَاءِ يَرُدُّونَ بِعُنْفٍ، وَيَسْمَعُونَ التَّأْنِيبَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=22وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ..
وَيَظَلُّ الْخَيَالُ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْمَشَاهِدَ مِنْ أُولَى حَلَقَاتِهَا إِلَى أُخْرَاهَا، حَتَّى يَصِلَ إِلَى حَلْقَةِ مُحَاوَلَةِ الْخُرُوجِ وَالرَّدِّ الْعَنِيفِ، لِيَبْدَأَ فِي الْعَرْضِ مِنْ جَدِيدٍ!
وَلَا يُبَارِحُ الْخَيَالُ هَذَا الْمَشْهَدَ الْعَنِيفَ الْمُتَجَدِّدَ إِلَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، الَّذِي يَسْتَطْرِدُ السِّيَاقُ إِلَى عَرْضِهِ. فَأَصْلُ الْمَوْضُوعِ أَنَّ هُنَاكَ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ فَقَدْ كُنَّا نَشْهَدُ مَصِيرَهُمُ الْمُفْجِعَ مُنْذُ لَحْظَةٍ! وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَهُمْ هُنَالِكَ فِي الْجَنَّاتِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. وَمَلَابِسُهُمْ لَمْ تُقَطَّعْ مِنَ النَّارِ، إِنَّمَا فُصِّلَتْ مِنَ الْحَرِيرِ. وَلَهُمْ فَوْقَهَا حُلًى مِنَ الذَّهَبِ وَاللُّؤْلُؤِ وَقَدْ هَدَاهُمُ اللَّهُ إِلَى الطِّيبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُدَاهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ. فَلَا مَشَقَّةَ حَتَّى فِي الْقَوْلِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ.. وَالْهِدَايَةُ إِلَى الطِّيبِ مِنَ الْقَوْلِ، وَالْهِدَايَةُ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ نِعْمَةٌ تُذْكَرُ فِي مَشْهَدِ النَّعِيمِ. نِعْمَةُ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْيُسْرِ وَالتَّوْفِيقِ.
وَتِلْكَ عَاقِبَةُ الْخِصَامِ فِي اللَّهِ. فَهَذَا فَرِيقٌ وَذَلِكَ فَرِيقٌ.. فَلْيَتَدَبَّرْ تِلْكَ الْعَاقِبَةً مَنْ لَا تَكْفِيهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، وَمَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ..