أما مناسبة هذه الحلقة ومقدماتها لموضوع هذه السورة فتبدو في عدة مواضع منها ومن السورة:
التركيز في جو السورة وظلالها على العلم - كما أسلفنا في أوائلها - والإشارة الأولى في قصة داود وسليمان هي :
ولقد آتينا داود وسليمان علما وإعلان سليمان لنعمة الله عليه يبدأ بالإشارة إلى تعليمه منطق الطير: وقال : [ ص: 2633 ] يا أيها الناس علمنا منطق الطير
. وعذر الهدهد عن غيبته في ثنايا القصة يبدأ بقوله: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين . والذي عنده "علم" من الكتاب هو الذي يأتي بعرش الملكة في غمضة عين..
وافتتاح السورة عن القرآن كتاب الله المبين إلى المشركين؛ وهم يتلقونه بالتكذيب، وفي القصة كتاب سليمان تتلقاه ملكة سبأ، فما تلبث طويلا حتى تأتي هي وقومها مسلمين، لما رأته من القوى المسخرة لسليمان من الجن والإنس والطير، والله هو الذي سخر لسليمان ما سخر، وهو القاهر فوق عباده، وهو رب العرش العظيم.
وفي السورة استعراض لنعم الله على العباد، وآياته في الكون، واستخلافه للناس وهم يجحدون بآيات الله، ولا يشكرونه، وفي القصة نموذج للعبد الشاكر، الذي يسأل ربه أن يوفقه إلى شكر نعمته عليه; المتدبر لآيات الله الذي لا يغفل عنها، ولا تبطره النعمة، ولا تطغيه القوة؛ فالمناسبات كثيرة وواضحة بين موضوع السورة وإشارات القصة ومواقفها.
وقصة سليمان مع ملكة سبأ نموذج واف للقصة في القرآن، ولطريقة الأداء الفني كذلك، فهي قصة حافلة بالحركة، وبالمشاعر، وبالمشاهد، وبتقطيع هذه المشاهد ووضع الفجوات الفنية بينها!
فلنأخذ في عرضها بالتفصيل :
ولقد آتينا داود وسليمان علما. وقالا : الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين .
هذه هي إشارة البدء في القصة، وإعلان الافتتاح؛ خبر تقريري عن أبرز النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان - عليهما السلام - نعمة العلم؛ فأما عن داود فقد ورد تفصيل ما آتاه الله من العلم في سور أخرى، منها تعليمه الترتيل بمقاطع الزبور، ترتيلا يتجاوب به الكون من حوله، فتؤوب الجبال معه والطير، لحلاوة صوته، وحرارة نبراته، واستغراقه في مناجاة ربه، وتجرده من العوائق والحواجز التي تفصل بينه وبين ذرات هذا الوجود، ومنها تعليمه صناعة الزرد وعدة الحرب، وتطويع الحديد له، ليصوغ منه من هذا ما يشاء؛ ومنها تعليمه القضاء بين الناس، مما شاركه فيه سليمان.
وأما سليمان ففي هذه السورة تفصيل ما علمه الله من منطق الطير وما إليه; بالإضافة إلى ما ذكر في سور أخرى من تعليمه القضاء، وتوجيه الرياح المسخرة له بأمر الله.
تبدأ القصة بتلك الإشارة: ولقد آتينا داود وسليمان علما وقبل أن تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة، وإعلان قيمتها وقدرها العظيم، والحمد لله الذي فضلهما بها على كثير من عباده المؤمنين، فتبرز قيمة العلم، وعظمة المنة به من الله على العباد، وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين.
ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار؛ وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله، وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره، وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه، وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه، فلا يكون العلم مبعدا لصاحبه عن الله، ولا منسيا له إياه، وهو بعض مننه وعطاياه
والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد، زائغ عن مصدره وعن هدفه، لا يثمر سعادة لصاحبه ولا للناس، إنما يثمر الشقاء والخوف والقلق والدمار، لأنه انقطع عن مصدره، وانحرف عن وجهته، وضل طريقه إلى الله..
ولقد انتهت البشرية اليوم إلى مرحلة جيدة من مراحل العلم، بتحطيم الذرة واستخدامها، ولكن ماذا جنت البشرية حتى اليوم من مثل هذا لعلم الذي لا يذكر أصحابه الله، ولا يخشونه، ولا يحمدون له، ولا يتوجهون [ ص: 2634 ] بعلمهم إليه؟ ماذا جنت غير الضحايا الوحشية في قنبلتي "هيروشيما" . و "ناجازاكي" وغير الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الشرق والغرب ويتهددهما بالتحطيم والدمار والفناء ؟
وبعد تلك الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان، وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث:
وورث سليمان داود. وقال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء. إن هذا لهو الفضل المبين ..
وداود أوتي الملك مع النبوة والعلم، ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان، إنما يذكر العلم، لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال!
"وورث سليمان داود" والمفهوم أنها وراثة العلم، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر، ويؤكد هذا إعلان سليمان في الناس: "قال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء". فيظهر ما علمه من منطق الطير ويجمل بقية النعم مع إسنادها إلى المصدر الذي علمه منطق الطير، وليس هو داود، فهو لم يرث هذا عن أبيه، وكذلك ما أوتيه من كل شيء إنما جاؤه من حيث جاءه ذلك التعليم.