رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ..
رب .. بهذاالنداء القريب المباشر المتصل.. أوزعني اجمعني كلي، اجمع جوارحي ومشاعري [ ص: 2637 ] ولساني وجناني وخواطري وخلجاتي، وكلماتي وعباراتي، وأعمالي وتوجهاتي، اجمعني كلي، اجمع طاقاتي كلها، أولها على آخرها وآخرها على أولها (وهو المدلول اللغوي لكلمة أوزعني) لتكون كلها في شكر نعمتك علي وعلى والدي..
وهذا التعبير يشي بنعمة الله التي مست قلب سليمان - عليه السلام - في تلك اللحظة ويصور نوع تأثره، وقوة توجهه، وارتعاشة وجدانه، وهو يستشعر فضل الله الجزيل، ويتمثل يد الله عليه وعلى والديه، ويحس مس النعمة والرحمة في ارتياع وابتهال.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي .. وأن أعمل صالحا ترضاه .. فالعمل الصالح هو كذلك فضل من الله يوفق إليه من يشكر نعمته، وسليمان الشاكر الذي يستعين ربه ليجمعه ويقفه على شكر نعمته، ويستعين ربه كذلك ليوفقه إلى عمل صالح يرضاه، وهو يشعر أن العمل الصالح توفيق ونعمة أخرى من الله.
وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ..
أدخلني برحمتك، فهو يعلم أن الدخول في عباد الله الصالحين، رحمة من الله، تتدارك العبد فتوفقه إلى العمل الصالح، فيسلك ف عداد الصالحين؛ يعلم هذا، فيضرع إلى ربه أن يكون من المرحومين الموفقين السالكين في هذا الرعيل، يضرع إلى ربه وهو النبي الذي أنعم الله عليه وسخر له الجن والإنس والطير، غير آمن مكر الله - حتى بعد أن اصطفاه؛ خائفا أن يقصر به عمله، وأن يقصر به شكره؛ وكذلك تكون الحساسية المرهفة بتقوى الله وخشيته والتشوق إلى رضاه ورحمته في اللحظة التي تتجلى فيها نعمته كما تجلت والنملة تقول وسليمان يدرك عنها ما تقول بتعليم الله له وفضله عليه.
ونقف هنا أمام خارقتين لا خارقة واحدة، خارقة إدراك سليمان لتحذير النملة لقومها، وخارقة إدراك النملة أن هذا سليمان وجنوده؛ فأما الأولى فهي مما علمه الله لسليمان، وسليمان إنسان ونبي، فالأمر بالقياس إليه أقرب من الخارقة الأخرى البادية في مقالة النملة؛ فقد تدرك النملة أن هؤلاء خلق أكبر; وأنهم يحطمون النمل إذا داسوه، وقد يهرب النمل من الخطر بحكم ما أودع الله فيه من القوى الحافظة للحياة، أما أن تدرك النملة أن هذه الشخوص هي سليمان وجنوده، فتلك هي الخارقة الخاصة التي تخرج على المألوف، وتحسب في عداد الخوارق في مثل هذه الحال.
والآن نأتي إلى قصة سليمان مع الهدهد وملكة سبأ وهي مقطعة إلى ستة مشاهد، بينها فجوات فنية، تدرك من المشاهد المعروضة، وتكمل جمال العرض الفني في القصة، وتتخللها تعقيبات على بعض المشاهد تحمل التوجيه الوجداني المقصود بعرضها في السورة; وتحقق العبرة التي من أجلها يساق القصص في القرآن الكريم.