وتتناسق التعقيبات مع المشاهد والفجوات تنسيقا بديعا، من الناحيتين الفنية الجمالية، والدينية الوجدانية.
ولما كان افتتاح الحديث عن سليمان قد تضمن الإشارة إلى الجن والإنس والطير، كما تضمن الإشارة إلى نعمة العلم، فإن القصة تحتوي دورا لكل من الجن والإنس والطير، ويبرز فيها دور العلم كذلك، وكأنما كانت تلك المقدمة إشارة إلى أصحاب الأدوار الرئيسية في القصة، وهذه سمة فنية دقيقة في القصص القرآني.
كذلك تتضح السمات الشخصية والمعالم المميزة لشخصيات القصة: شخصية سليمان، وشخصية الملكة، [ ص: 2638 ] وشخصية الهدهد، وشخصية حاشية الملكة. كما تعرض الانفعالات النفسية لهذه الشخصيات في شتى مشاهد القصة ومواقفها.
يبدأ المشهد الأول في مشهد العرض العسكري العام لسليمان وجنوده، بعد ما أتوا على وادي النمل، وبعد مقالة النملة، وتوجه سليمان إلى ربه بالشكر والدعاء والإنابة:
وتفقد الطير فقال : ما لي لا أرى الهدهد؟ أم كان من الغائبين؟ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه، أو ليأتيني بسلطان مبين ..
فها هو ذا الملك النبي سليمان في موكبه الفخم الضخم؛ ها هو ذا يتفقد الطير فلا يجد الهدهد، ونفهم من هذا أنه هدهد خاص، معين في نوبته في هذا العرض، وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد، كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته: سمة اليقظة والدقة والحزم، فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير، الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث.
وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة : ما لي لا أرى الهدهد؟ أم كان من الغائبين؟ .
ويتضح أنه غائب، ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم، كي لا تكون فوضى؛ فالأمر بعد سؤال الملك هذا السؤال لم يعد سرا، وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند، ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه .. ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره؛ ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: أو ليأتيني بسلطان مبين . أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه.
ويسدل الستار على هذا المشهد الأول في القصة (أو لعله كان ما يزال قائما) ويحضر الهدهد، ومعه نبأ عظيم، بل مفاجأة ضخمة لسليمان، ولنا نحن الذين نشهد أحداث الرواية الآن!
فمكث غير بعيد فقال : أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبإ بنبإ يقين. إني وجدت امرأة تملكهم، وأوتيت من كل شيء، ولها عرش عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم، فصدهم عن السبيل، فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، ويعلم ما تخفون وما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ..
إنه يعرف حزم الملك وشدته؛ فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغى على موضوع غيبته، وتضمن إصغاء الملك له: أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبإ بنبإ يقين .. فأي ملك لا يستمع وأحد رعاياه يقول له : أحطت بما لم تحط به ؟!
فإذا ضمن إصغاء الملك بعد هذه المفاجأة أخذ في تفصيل النبإ اليقين الذي جاء به من سبأ - ومملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن - فذكر أنه وجدهم تحكمهم امرأة " أوتيت من كل شيء " وهي كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع. ولها عرش عظيم . أي: سرير ملك فخم ضخم، يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة؛ وذكر أنه وجد الملكة وقومها يسجدون للشمس من دون الله وهنا يعلل ضلال القوم بأن الشيطان زين لهم أعمالهم، فأضلهم، فهم لا يهتدون إلى عبادة الله العليم الخبير الذي يخرج [ ص: 2639 ] الخبء في السماوات والأرض . والخبء: المخبوء إجمالا سواء أكان هو مطر السماء ونبات الأرض، أم كان هو أسرار السماوات والأرض، وهي كناية عن كل مخبوء وراء ستار الغيب في الكون العريض ويعلم ما تخفون وما تعلنون وهي مقابلة للخبء في السماوات والأرض بالخبء في أطواء النفس؛ ما ظهر منه وما بطن.
والهدهد إلى هذه اللحظة يقف موقف المذنب، الذي لم يقض الملك في أمره بعد; فهو يلمح في ختام النبإ الذي يقصه، إلى الله الملك القهار، رب الجميع، صاحب العرش العظيم، الذي لا تقاس إليه عروش البشر؛ ذلك كي يطامن الملك من عظمته الإنسانية أمام هذه العظمة الإلهية :
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ..
فيلمس قلب سليمان - في سياق التعقيب على صنع الملكة وقومها - بهذه الإشارة الخفية!
ونجد أنفسنا أمام هدهد عجيب؛ صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبراعة في عرض النبأ، ويقظة إلى طبيعة موقفه، وتلميح وإيماء أريب؛ فهو يدرك أن هذه ملكة وأن هؤلاء رعية، ويدرك أنهم يسجدون للشمس من دون الله، ويدرك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، وأنه هو رب العرش العظيم، وما هكذا تدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاص، على سبيل الخارقة التي تخالف المألوف.
ولا يتسرع سليمان في تصديقه أو تكذيبه; ولا يستخفه النبأ العظيم الذي جاءه به؛ إنما يأخذ في تجربته، للتأكد من صحته؛ شأن النبي العادل والملك الحازم:
قال : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين. اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تول عنهم، فانظر ماذا يرجعون .
ولا يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب، فيظل ما فيه مغلقا كالكتاب نفسه حتى يفتح ويعلن هناك، وتعرض المفاجأة الفنية في موعدها المناسب!
ويسدل الستار على هذا المشهد ليرفع فإذا الملكة وقد وصل إليها الكتاب، وهي تستشير الملأ من قومها في هذا الأمر الخطير :
قالت : يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم. إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ..
فهي تخبرهم أنه ألقي إليها كتاب، ومن هذا نرجح أنها لم تعلم من ألقى إليها الكتاب،ولا كيف ألقاه، ولو كانت تعرف أن الهدهد هو الذي جاء به - كما تقول التفاسير - لأعلنت هذه العجيبة التي لا تقع كل يوم، ولكنها قالت بصيغة المجهول، مما يجعلنا نرجح أنها لم تعلم كيف ألقي إليها ولا من ألقاه.
وهي تصف الكتاب بأنه "كريم". وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمه أو شكله؛ أو من محتوياته التي أعلنت عنها للملإ : إنه من سليمان، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين .. وهي كانت لا تعبد الله؛ ولكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة، ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم، مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته.
وفحوى الكتاب في غاية البساطة والقوة؛ فهو مبدوء باسم الله الرحمن الرحيم، ومطلوب فيه أمر واحد :
[ ص: 2640 ] ألا يستكبروا على مرسله ويستعصوا، وأن يأتوا إليه مستسلمين لله الذي يخاطبهم باسمه.
ألقت الملكة إلى الملإ من قومها بفحوى الكتاب; ثم استأنفت الحديث تطلب مشورتهم، وتعلن إليهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة، برضاهم وموافقتهم :
قالت : يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ..
وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة; فواضح منذ اللحظة الأولى أنها أخذت بهذا الكتاب الذي ألقي إليها من حيث لا تعلم، والذي يبدو فيه الحزم ولاستعلاء، وقد نقلت هذا الأثر إلى نفوس الملإ من قومها وهي تصف الكتاب بأنه "كريم" وواضح أنها لا تريد المقاومة والخصومة، ولكنها لا تقول هذا صراحة، إنما تمهد له بذلك الوصف، ثم تطلب الرأي بعد ذلك والمشورة!
وعلى عادة رجال الحاشية أبدوا استعدادهم للعمل؛ ولكنهم فوضوا للملكة الرأي :