ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، والله سميع عليم لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، والله غفور حليم للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر. فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ..
التفسير المروي في قوله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم.. عن - رضي الله عنهما - قال: لا تجعلن عرضة يمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير . وكذا قال ابن عباس مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني - رحمهم الله - كما نقل والسدي ابن كثير .
ومما يستشهد به لهذا التفسير ما رواه - بإسناده - عن مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي هريرة وما رواه من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير - بإسناده - عن البخاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة .. والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه
وعلى هذا يكون معناها: لا تجعلوا الحلف بالله مانعا لكم من عمل البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
فإذا حلفتم ألا تفعلوا، فكفروا عن إيمانكم وائتوا الخير. فتحقيق البر والتقوى والإصلاح أولى من المحافظة على اليمين.
وذلك كالذي وقع من - رضي الله عنه - حين أقسم لا يبر مسطحا قريبه الذي شارك في حادثة الإفك - فأنزل الله الآية التي في سورة النور: أبي بكر ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا. ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ .. فرجع عن يمينه وكفر عنها . أبو بكر
على أن الله كان أرأف بالناس، فلم يجعل الكفارة إلا في اليمين المعقودة ، التي يقصد إليها الحالف قصدا، وينوي ما وراءها مما حلف عليه. فأما ما جرى به اللسان عفوا ولغوا من غير قصد، فقد أعفاهم منه ولم يوجب فيه الكفارة:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم. والله غفور حليم .. وقد روى - بإسناده - عن أبو داود رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عائشة .. ورواه اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: كلا والله. وبلى والله عن طريق ابن جرير موقوفا على عروة : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.. لا والله وبلى والله .. وفي حديث مرسل - عن عائشة - قال: الحسن بن أبي الحسن .. مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم ينتضلون - يعني يرمون - ومع رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 244 ] وسلم - رجل من أصحابه. فقام رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حنث الرجل يا رسول الله. قال: "كلا. أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة
وورد عن - رضي الله عنهما - لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان .. كما روي عنه: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله، فذلك ليس عليك فيه كفارة .. ابن عباس
أن أخوين من سعيد بن المسيب الأنصار كان بينهما ميراث. فسأل أحدهما صاحبه القسمة. فقال:
إن عدت تسألني عن القسمة فكل ما لي في رتاج الكعبة ! فقال له : إن عمر الكعبة غنية عن مالك! كفر عن يمينك وكلم أخاك. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك .. وعن
والذي يخلص من هذه الآثار أن وأن اليمين التي لا تنعقد النية على ما وراءها، إنما يلغو بها اللسان، لا كفارة فيها. وهي التي تستوجب الكفارة عند الحنث بها. وإنه يجب الحنث بها إن كان مؤداها الامتناع عن فعل خير أو الإقدام على فعل شر. فأما إذا حلف الإنسان على شيء وهو يعلم أنه كاذب ، فبعض الآراء أنه لا تقوم لها كفارة أي لا يكفر عنها شيء. قال اليمين التي ينوي الحالف الأخذ أو الترك لما حلف عليه هي التي تنعقد. في الموطأ: أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه. والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضي به أحدا، ويقتطع به مالا، فهذا أعظم من أن تكون له كفارة. الإمام مالك
ويعقب السياق على حكم العدول عن اليمين إلى ما فيه البر والخير بقوله: والله سميع عليم .. ليوحي إلى القلب بأن الله - سبحانه - يسمع ما يقال ويعلم أين هو الخير. ومن ثم يحكم هذا الحكم.
ويعقب على حكم يمين اللغو واليمين المعقودة التي ينويها القلب بقوله: والله غفور حليم .. ليلوح للقلب بحلم الله عن مؤاخذة العباد بكل ما يفلت من ألسنتهم، ومغفرته كذلك - بعد التوبة - لما تأثم به قلوبهم.
بهذا وذلك يربط الأمر بالله، ويعلق القلوب بالاتجاه إليه في كل ما تكسب وكل ما تقول:
وعند الانتهاء من تقرير القاعدة الكلية في الحلف، يأخذ في الحديث عن يمين الإيلاء : وهي أن يحلف الزوج ألا يباشر زوجته. إما لأجل غير محدود، وإما لأجل طويل معين:
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر. فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ..
إن هناك حالات نفسية واقعة، تلم بنفوس بعض الأزواج، بسبب من الأسباب في أثناء الحياة الزوجية وملابساتها الواقعية الكثيرة، تدفعهم إلى الإيلاء بعدم المباشرة، وفي هذا الهجران ما فيه من إيذاء لنفس الزوجة; ومن إضرار بها نفسيا وعصبيا; ومن إهدار لكرامتها كأنثى; ومن تعطيل للحياة الزوجية; ومن جفوة تمزق أوصال العشرة، وتحطم بنيان الأسرة حين تطول عن أمد معقول.
ولم يعمد الإسلام إلى تحريم هذا الإيلاء منذ البداية، لأنه قد يكون علاجا نافعا في بعض الحالات للزوجة الشامسة المستكبرة المختالة بفتنتها وقدرتها على إغراء الرجل وإذلاله أو إعناته. كما قد يكون فرصة للتنفيس عن عارض سأم، أو ثورة غضب، تعود بعده الحياة أنشط وأقوى.. [ ص: 245 ] ولكنه لم يترك الرجل مطلق الإرادة كذلك، لأنه قد يكون باغيا في بعض الحالات يريد إعنات المرأة وإذلالها; أو يريد إيذاءها لتبقى معلقة، لا تستمتع بحياة زوجية معه، ولا تنطلق من عقالها هذا لتجد حياة زوجية أخرى.
فتوفيقا بين الاحتمالات المتعددة، ومواجهة للملابسات الواقعية في الحياة. جعل هنالك حدا أقصى للإيلاء . لا يتجاوز أربعة أشهر. وهذا التحديد قد يكون منظورا فيه إلى أقصى مدى الاحتمال، كي لا تفسد نفس المرأة، فتتطلع تحت ضغط حاجتها الفطرية إلى غير رجلها الهاجر. وقد روي أن - رضي الله عنه - خرج من الليل يعس. أي يتحسس حاجات الناس وأحوالهم متخفيا فسمع امرأة تقول: عمر بن الخطاب
تطاول هذا الليل وأسود جانبه وأرقني إلا خليل ألاعبه فو الله، لولا الله إني أراقبه
لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل ابنته عمر - رضي الله عنها - كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر - أو أربعة أشهر - فقال حفصة : لا أحبس أحدا من الجياش أكثر من ذلك .. وعزم على ألا يغيب المجاهدون من الجند أكثر من هذه الفترة .. عمر
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف في مثل هذه الأمور. ولكن أربعة أشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه ومشاعره. فإما أن يفيء ويعود إلى استئناف حياة زوجية صحيحة، ويرجع إلى زوجه وعشه، وإما أن يظل في نفرته وعدم قابليته. وفي هذه الحالة ينبغي أن تفك هذه العقدة; وأن ترد إلى الزوجة حريتها بالطلاق. فإما طلق وإما طلقها عليه القاضي. وذلك ليحاول كل منهما أن يبدأ حياة زوجية جديدة مع شخص جديد. فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون; وأروح للرجل كذلك وأجدى; وأقرب إلى العدل والجد في هذه العلاقة التي أراد الله بها امتداد الحياة لا تجميد الحياة.