ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات .. تبشر بالمطر. وهم يعرفون الريح المطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها. وليذيقكم من رحمته بآثار هذه البشرى من الخصب والنماء. ولتجري الفلك بأمره سواء بدفع الرياح لها، أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها. وهي تجري - مع هذا - بأمر الله. ووفق سنته التي فطر عليها الكون، وتقديره الذي أودع كل شيء خاصيته ووظيفته، وجعل من شأن هذا أن تخف الفلك على سطح الماء فتسير، وأن تدفعها الرياح فتجري معالتيار وضد التيار. وكل شيء عنده بمقدار.. ولتبتغوا من فضله في الرحلات التجارية، وفي الزرع والحصاد، وفي الأخذ والعطاء. وكله من فضل الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. ولعلكم تشكرون على نعمة الله في هذا كله.. وهذا توجيه إلى ما ينبغي أن يقابل به العباد نعمة الله الوهاب.
ومثل إرسال الرياح مبشرات إرسال الرسل بالبينات:
ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ..
ولكن الناس لم يستقبلوا رحمة الله هذه - وهي أجل وأعظم - استقبالهم للرياح المبشرات. ولا انتفعوا بها - وهي أنفع وأدوم - انتفاعهم بالمطر والماء! ووقفوا تجاه الرسل فريقين: مجرمين لا يؤمنون ولا يتدبرون ولا يكفون عن إيذاء الرسل والصد عن سبيل الله. ومؤمنين يدركون آيات الله، ويشكرون رحمته، ويثقون بوعده، ويحتملون من المجرمين ما يحتملون.. ثم كانت العاقبة التي تتفق مع عدل الله ووعده الوثيق.
فانتقمنا من الذين أجرموا. وكان حقا علينا نصر المؤمنين ..
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين، وجعله لهم حقا، فضلا وكرما. وأكده لهم في هذه لصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا. وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وناموسه الذي يحكم الوجود.
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا - في تقدير البشر - لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله. والله هو الحكيم الخبير. يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته. وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف. ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح، ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين.
[ ص: 2775 ] بعد ذلك يمضي السياق يقرر أن الله هو الذي يرسل الرياح، وينزل المطر، ويحيي الأرض بعد موتها، وكذلك يحيي الموتى فيبعثون.. سنة واحدة، وطريقة واحدة، وحلقات في سلسلة الناموس الكبير:
الله الذي يرسل الرياح .. وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه. فتثير سحابا . بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض. فيبسطه في السماء .. ويفرشه ويمده. ويجعله كسفا .. بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض، أو يصطدم بعضه ببعض، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة، أو كسفة منه وكسفة. فترى الودق يخرج من خلاله وهو المطر يتساقط من خلال السحاب. فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون .. ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر. والعرب أعرف الناس بهذه الإشارة. وحياتهم كلها تقوم على ماء السماء، وقد تضمنت ذكره أشعارهم وأخبارهم في لهفة وحب وإعزاز!
وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ..
وهذا تقرير لحالهم قبل أن ينزل عليهم المطر: حولهم من اليأس والقنوط والهمود.. ثم هم يستبشرون.. فانظر إلى آثار رحمت الله ..! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود، وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب.
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها .. إنها حقيقة واقعة منظورة، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر. ومن ثم يتخذها برهانا على قضية البعث والإحياء في الآخرة. على طريقة الجدل القرآني، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة، وواقع الحياة المشهودة، مادته وبرهانه، ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه:
إن ذلك لمحيي الموتى .. وهو على كل شيء قدير ..
وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير.
وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء، ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء.. يمضي في تصوير حالهم لو كانت الريح التي رأوها مصفرة بما تحمل من رمل وتراب لا من ماء وسحاب - وهي الريح المهلكة للزرع والضرع - أو التي يصفر منها الزرع فيصير حطاما:
ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ..
يكفرون سخطا ويأسا، بدلا من أن يستسلموا لقضاء الله، ويتوجهوا إليه بالضراعة ليرفع عنهم البلاء. وهي حال من لا يؤمن بقدر الله، ولا يهتدي ببصيرته إلى حكمة الله في تدبيره، ولا يرى من وراء الأحداث يد الله التي تنسق هذا الكون كله، وتقدر كل أمر وكل حادث. وفق ذلك التنسيق الشامل للوجود المترابط الأجزاء..
وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم، وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث.. عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم، ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها، وانطماس بصيرتهم وعماها: [ ص: 2776 ] فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ..
وهو يصورهم موتى لا حياة فيهم، صما لا سمع لهم، عميا لا يهتدون إلى طريق.. والذي ينفصل حسه عن الوجود فلا يدرك نواميسه وسننه ميت لا حياة فيه. إنما هي حياة حيوانية، بل أضل وأقل، فالحيوان مهدي بفطرته التي قلما تخونه! والذي لا يستجيب لما يسمع من آيات الله ذات السلطان النافذ في القلوب أصم، ولو كانت له أذنان تسمعان ذبذبة الأصوات! والذي لا يبصر آيات الله المبثوثة في صفحات الوجود أعمى، ولو كانت له عينان كالحيوان!
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ..
وهؤلاء هم الذين يسمعون الدعوة، لأن قلوبهم حية، وبصائرهم مفتوحة، وإدراكهم سليم. فهم يسمعون فيسلمون. ولا تزيد الدعوة على أن تنبه فطرتهم فتستجيب.
بعد ذلك يعود السياق ليجول بهم جولة جديدة، لا في مشاهد الكون من حولهم، ولكن في ذوات أنفسهم، وفي أطوار نشأتهم على هذه الأرض ويمتد بالجولة إلى نهايتها هنالك في الحياة الأخرى. في ترابط بين الحياتين وثيق:
الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة - يخلق ما يشاء - وهو العليم القدير. ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة. كذلك كانوا يؤفكون. وقال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون. فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ..
إنها جولة مديدة، يرون أوائلها في مشهود حياتهم، ويرون أواخرها مصورة تصويرا مؤثرا كأنها حاضرة أمامهم. وهي جولة موحية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الله الذي خلقكم من ضعف .. ولم يقل خلقكم ضعافا أو في حالة ضعف، إنما قال: خلقكم من ضعف كأن الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم.. والضعف الذي تشير الآية إليه ذو معان ومظاهر شتى في تكوين هذا الإنسان.
إنه ضعف البنية الجسدية الممثل في تلك الخلية الصغيرة الدقيقة التي ينشأ منها الجنين. ثم في الجنين وأطواره وهو فيها كلها واهن ضعيف. ثم في الطفل والصبي حتى يصل إلى سن الفتوة وضلاعة التكوين.
ثم هو ضعف المادة التي ذرأ منها الإنسان. الطين. الذي لولا نفخة من روح الله لظل في صورته المادية أو في صورته الحيوانية، وهي بالقياس إلى الخلقة الإنسانية ضعيفة ضعيفة.
ثم هو ضعف الكيان النفسي أمام النوازع والدفعات، والميول والشهوات، التي لولا النفخة العلوية وما خلقت في تلك البنية من عزائم واستعدادات، لكان هذا الكائن أضعف من الحيوان المحكوم بالإلهام.
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة .. قوة بكل تلك المعاني التي جاءت في الحديث عن الضعف. قوة في الكيان الجسدي، وفي البناء الإنساني، وفي التكوين النفسي والعقلي.
ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة .. ضعفا في الكيان الإنساني كله. فالشيخوخة انحدار إلى الطفولة [ ص: 2777 ] بكل ظواهرها. وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة حتى ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل، ولا يجد من إرادته عاصما. ومع الشيخوخة الشيب، يذكر تجسيما وتشخيصا لهيئة الشيخوخة ومنظرها.
وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب. إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة، تخلق ما تشاء، وتقدر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيق وتقدير دقيق: يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ..
ولا بد لهذه النشأة المحكمة المقدرة من نهاية كذلك مرسومة مقدرة. هذه النهاية يرسمها في مشهد من مشاهد القيامة، حافل بالحركة والحوار على طريقة القرآن: