[ ص: 2881 ] يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63) إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71) إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما (73)
في هذا الدرس الأخير من السورة حديث عن سؤال الناس عن الساعة، واستعجالهم بها، وشكهم فيها. وجواب عن هذا السؤال يدع أمرها إلى الله، مع تحذيرهم من قربها، واحتمال أن تأخذهم على غرة أخذا سريعا. ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الساعة لا يسر المستعجلين بها يوم تقلب وجوههم في النار. ويوم يندمون على عدم طاعة الله ورسوله. ويوم يطلبون لسادتهم وكبرائهم ضعفين من العذاب. وهو مشهد مفجع لا يستعجل به مستعجل.. ثم يعود بهم من هذا المشهد في الآخرة إلى هذه الأرض مرة أخرى! يعود ليحذر الذين آمنوا أن يكونوا كقوم موسى الذين آذوه واتهموه فبرأه الله مما قالوا - ويبدو أن هذا كان ردا على أمر واقع. ربما كان هو حديث بعضهم عن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومخالفته لمألوف بزينب العرب - ويدعو المؤمنين أن يقولوا قولا سديدا بعيدا عن اللمز والعيب. ليصلح الله لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم. ويحببهم في طاعة الله ورسوله ويعدهم عليها الفوز العظيم.
ويختم السورة بالإيقاع الهائل العميق. عن الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال، وحملها الإنسان، وهي ضخمة هائلة ساحقة. ذلك ليتم تدبير الله في ترتيب الجزاء على العمل، ومحاسبة الإنسان على ما رضي لنفسه واختار: ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما ..
[ ص: 2882 ] يسألك الناس عن الساعة. قل: إنما علمها عند الله. وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ..
وقد كانوا ما يفتؤون يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة التي حدثهم عنها طويلا; وخوفهم بها طويلا; ووصف القرآن مشاهدها حتى لكأن قارئه يراها. يسألونه عن موعدها; ويستعجلون هذا الموعد; ويحمل هذا الاستعجال معنى الشك فيها، أو التكذيب بها، أو السخرية منها، بحسب النفوس السائلة، وقربها من الإيمان أو بعدها.
والساعة غيب قد اختص به الله سبحانه، ولم يشأ أن يطلع عليه أحدا من خلقه جميعا، بما فيهم الرسل والملائكة المقربون. وفي حديث حقيقة الإيمان والإسلام: عن - رضي الله عنهما - قال: حدثني أبي عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: عمر بن الخطاب محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت! فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت! قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.. إلخ. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فإنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم " . بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا
فالمسؤول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسائل - جبريل عليه السلام - كلاهما لا يعلم علم الساعة; قل: إنما علمها عند الله .. على وجه الاختصاص والتفرد من دون عباد الله.
قدر الله هذا لحكمة يعلمها، نلمح طرفا منها، في ترك الناس على حذر من أمرها، وفي توقع دائم لها، وفي استعداد مستمر لفجأتها. ذلك لمن أراد الله له الخير، وأودع قلبه التقوى. فأما الذين يغفلون عن الساعة، ولا يعيشون في كل لحظة على أهبة للقائها، فأولئك الذين يختانون أنفسهم، ولا يقونها من النار. وقد بين الله لهم وحذرهم وأنذرهم; وجعل الساعة غيبا مجهولا متوقعا في أية لحظة من لحظات الليل والنهار: وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ..
إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا، خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا، يوم تقلب وجوههم في النار، يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا. وقالوا: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا، فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ..
إنهم يسألون عن الساعة. فهذا مشهد من مشاهد الساعة:
إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ..
إن الله طرد الكافرين من رحمته، وهيأ لهم نارا مسعرة متوقدة، فهي معدة جاهزة حاضرة.
خالدين فيها أبدا ..
[ ص: 2883 ] باقين فيها عهدا طويلا، لا يعلم مداه إلا الله; ولا نهاية له إلا في علم الله، حيث يشاء الله. وهم مجردون من كل عون، محرومون من كل نصير، فلا أمل في الخلاص من هذا السعير، بمعونة من ولي ولا نصير:
لا يجدون وليا ولا نصيرا ..
أما مشهدهم في هذا العذاب فهو مشهد بائس أليم:
يوم تقلب وجوههم في النار ..
والنار تغشاهم من كل جهة، فالتعبير على هذا النحو يراد به تصوير الحركة وتجسيمها، والحرص على أن تصل النار إلى كل صفحة من صفحات وجوههم زيادة في النكل!
يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ..
وهي أمنية ضائعة، لا موضع لها ولا استجابة، فقد فات الأوان. إنما هي الحسرة على ما كان!
ثم تنطلق من نفوسهم النقمة على سادتهم وكبرائهم، الذين أضلوهم، وبالإنابة إلى الله وحده، حيث لا تنفع الإنابة:
وقالوا: ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ..
هذه هي الساعة. ففيم السؤال عنها؟ إن العمل لها هو المخلص الوحيد من هذا المصير المشئوم فيها!
ويبدو أن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من - رضي الله عنها - مخالفا في ذلك عرف الجاهلية الذي تعمد الإسلام أن يبطله بهذه السابقة العملية. يبدو أن هذا الزواج لم يمر بسهولة ويسر; وأنه قد انطلقت ألسنة كثيرة من المنافقين ومرضى القلوب، وغير المتثبتين الذين لم يتضح في نفوسهم التصور الإسلامي الناصع البسيط، انطلقت تغمز وتلمز، وتؤول وتعترض، وتهمس وتوسوس. وتقول قولا عظيما! زينب بنت جحش
والمنافقون والمرجفون لم يكونوا يسكتون. فقد كانوا ينتهزون كل فرصة لبث سمومهم. كالذي رأينا في غزوة الأحزاب. وفي حديث الإفك. وفي قسمة الفيء. وفي كل مناسبة تعرض لإيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير حق.
وفي هذا الوقت - بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل - لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر. فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين. وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات، وينشرون الأكاذيب، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم، ويسايرهم في بعض ما يروجون. فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى - عليه السلام - ويوجههم إلى تسديد القول، وعدم إلقائه على عواهنه، بغير ضبط ولا دقة; ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم:
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا. وكان عند الله وجيها. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم. ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ..
ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى ; ولكن وردت روايات تعينه. ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن. فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 2884 ] وقد ضرب بني إسرائيل مثلا للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة. فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم، وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلا صارخا للانحراف والالتواء.
وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه، وكان عند الله وجيها ذا وجاهة وذا مكانة. والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبا وبهتانا. ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه.
ويوجه القرآن المؤمنين إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه، ومعرفة هدفه واتجاهه. قبل أن يتابعوا المنافقين والمرجفين فيه; وقبل أن يستمعوا في نبيهم ومرشدهم ووليهم إلى قول طائش ضال أو مغرض خبيث. ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح. فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء التصويب والتسديد. ولا ينتقذهم منها إلا المغفرة والتكفير.
ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ..
والطاعة بذاتها فوز عظيم. فهي استقامة على نهج الله.والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة. والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الواصل سعادة ذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه. وليس الذي يسيطر في الطريق الممهود المنير وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله ويصادمه ويؤذيه! فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها; وهى الفوز العظيم، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة. فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل. والله يرزق من يشاء بغير حساب.
ولعله فضل نظر الله فيه إلى ضعف هذا الإنسان، وإلى ضخامة التبعة التي يحملها على عاتقه. وإلى حمله للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال. والتي أخذها على عاتقه، وتعهد بحملها وحده، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات، وقصور العلم، وقصر العمر، وحواجز الزمان والمكان، دون المعرفة الكاملة ورؤية ما وراء الحواجز والآماد: