قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه (282):
فقد ذهب بعض علماء السلف إلى وجوب الإشهاد فيما قل وجل، وفيما حل وأجل من الديون، وإليه ذهب وابنه أبو داود ورووا عن أبو بكر، أنه قال لما قيل له: إن الدين منسوخة فقال: ابن عباس
لا والله بل آية الدين محكمة ما فيها نسخ. [ ص: 238 ] وروي عن أبي سعيد الخدري والشعبي أن الإشهاد في آية المداينة منسوخ بقوله تعالى: والحسن فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته (283).
فاختلفت الأقوال على ما ترى، فنقول وبالله التوفيق:
إن قوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا لم يتبين تأخر نزولها عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد، بل وردا معا، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة، فدل ذلك على أن الأمر بالإشهاد ندب لا واجب، والذي يزيده وضوحا أنه قال: فإن أمن بعضكم بعضا ، ومعلوم أن هذا الأمن لا يقع إلا بحسب الظن والتوهم لا على وجه الحقيقة، وذلك يدل على أن الشهادة إنما أمر بها لطمأنينة قلبه لا لحق الشرع، فإنها لو كانت لحق الشرع ما قال: فإن أمن بعضكم بعضا .
ولا ثقة بأمن العباد إنما الاعتماد على ما يراه الشرع مصلحة.
فالشهادة متى شرعت في النكاح لم تسقط بتراضيهما وأمن بعضهم بعضا، فدل ذلك أن الشهادة شرعت للطمأنينة، ولأن الله تعالى جعل لتوثيق الديون طرقا:
منها: الكتاب.
ومنها: الرهن.
ومنها: الإشهاد.
ولا خلاف بين علماء الأمصار، أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد.
وما زال الناس يتبايعون سفرا وحضرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا [ ص: 239 ] من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير ولو وجب الإشهاد لما تركوا النكير على تاركه.
ومعلوم أن الإنسان في غير البيع والشراء قد يأتمن الرجل على ماله فلا يحرم عليه، ولو باعه شيئا وأسلفه الثمن، يجوز إذا ائتمنه على ثمنه.
فإذا ملك الإنسان الثمن بالبيع، فسواء ائتمن عليه المشتري أو اختلفا بعد استيفائه منه، فالكل واحد، وذلك يدل على أن الأمر بالإشهاد ندب.
وقد ظن بعض الناس أن قوله تعالى: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى دليل على جواز التأجيل في القروض على ما قاله إذ لم يفصل بين القرض وسائر عقود المداينات، وهذا غلط منه، لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون، وإنما فيها الأمر بالإشهاد، إذا كان دينا مؤجلا، ثم يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه. مالك،