وقوله تعالى: وما علمتم من الجوارح مكلبين : [ ص: 24 ] اعلم أن في ظاهر الآية وقفة للمتأمل، فإن الله تعالى قال: يسألونك ماذا أحل لهم ثم قال في الجواب: قل أحل لكم الطيبات وما علمتم ، ... فيقتضي أن يكون الحل المسؤول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المتكلبين، وذلك ليس مذهبا لنا ولا لأحد، فإن الذي يبيح إن صح ذلك عن لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلم، فقل هذا في الكلام حذف وتقديره: قل أحل لكم الطيبات -ومن جملته- صيد ما علمتم من الجوارح. مالك،
ويدل عليه ما روي عن قال: لما سألت رسول الله عن صيد الكلب لم يدر ما يقول حتى نزلت: عدي بن حاتم وما علمتم من الجوارح مكلبين .
وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن ما يدل على أن الآية تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر الانتفاع، فدل على جواز بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل، وهذا في غاية البعد عن الحق. بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها
فإن قول الله تعالى: يسألونك ماذا أحل لهم لم يتناول السؤال عن وجوه الانتفاع بالأعيان في البياعات والهبات والإجارات، فإنه لو كان كذلك، لم يكن جوابه ذكر الطيبات وما علمتم من الجوارح، ثم يقول في مساق ذلك: فكلوا مما أمسكن عليكم ولا يتعرض لسائر وجوه الانتفاع من البيع والهبة. يدل على ذلك أن السؤال إنما يتناول الأكل فقط، والجواب كان عن ذلك، وكيف ينتظم في الكلام أن يسأل عما ينتفع به من الأشياء، [ ص: 25 ] فيذكر في خلال ذلك الكلب بمعنى البيع، وصيد الكلب بمعنى الأكل، وليس جواز البيع في المعلم لكونه معلما، فإن غير المعلم مثله من كلب الحراثة والحراسة وغيرهما؟
وقوله: وما علمتم من الجوارح : يقتضي بمطلقه جواز تناول كل ما اصطاده الكلب المعلم لمالكه، وإن لم يجرحه، وهو قول . الشافعي
وقوله تعالى: "مكلبين" مع قوله: "من الجوارح" يتناول الكلب والفهد والصقر، لأن اسم الجوارح يقع على الجميع.
وروي عن في بعض السواد أنه قال: لا يصلح ما قتله البزاة، وذلك خلاف الإجماع، واسم الجوارح يقع على كل ما يجرح أو يجترح، أو إن عنى به الكواسب للصيد على أهلها كالكلاب وسباع الطيور والتي تصطاد وغيرها، واحدها جارح، وبه سميت الجارحة لأنه يكتسب بها، وقال تعالى: علي ما جرحتم بالنهار : أي: ما كسبتم. ومنه قوله: أم حسب الذين اجترحوا السيئات . وذلك يدل على جواز من السباع، والمخلب من الطير ، وقيل في الطير: إنها تجرح أو تخلب، وإذا ثبت ذلك فقوله: "مكلبين" أي: مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكليب هو التضرية، يقال: كلب يكلب إذا ضرى بالناس، ولا تخصيص في ذلك للكلاب دون غيرها من الجوارح. [ ص: 26 ] وإذا كانت التضرية شاملة وثبت ذلك، فقد صار كثير من الصحابة أي إن الإمساك على المالك المذكور في الآية في قوله: الاصطياد لكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب فكلوا مما أمسكن عليكم هو الانقياد للمالك في الإضراء والإرعواء، فإذا لم تهرب منه بعد الاصطياد واحدة فلا يحرم أصلا، وإن أكل منه.
وأصحابه شرطوا ترك الأكل في الكلب والفهد، ولم يشترطوه في الطيور. وأبو حنيفة
مال إلى هذا الفرق في قول، وسوى في ترك الأكل بينهما، وهو القياس. وإذا تبين ذلك فقوله تعالى: والشافعي فكلوا مما أمسكن عليكم إن كان المراد به ترك الأكل، ما كان قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين متناولا للبازي، ولأجل ذلك قال لا يحل صيد البازي أصلا، فإنه لا يتحقق تعليمه على ترك الأكل. علي:
واعلم أن الظاهر يقتضي أن يكون المراد بقوله: فكلوا مما أمسكن عليكم : أي: كلوا مما اصطدن بأمركم وإرسالكم، وكان الاصطياد صادرا عن إعزائكم ، ولذلك ذكر الجوارح مطلقا ولم يتهيأ لعاقل أن يقول: إن ترك الأكل دليل على أن الكلب قصد الإمساك للمالك، فإنه لا وقوف على نية الكلب، ولا أن كلبا في العالم ينوي الأخذ للمالك دون نفسه، بل قصده لنفسه تحقيقا.
وقيل: الصيد هو الذكاة، وترك الأكل شرط بعد الموت، ويبعد أن يكون ما بعد الموت شرطا في الذبح. [ ص: 27 ] نعم، إنا نشترط معرفة غاية الانقياد للمالك ومخالفة عادته القديمة، وذلك بأن لا يقدم دون إرسال الصيد، وإن أوقفه وقف، وكان الذي شرط ترك الأكل، شرط ذلك ليبين به مخالفة عادته وطبعه.
وإذا ثبت ذلك صح من هذه الجهة أن قوله تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم ليس أنه أراد به نية الكلب في الإمساك للمالك.