واعترض عليه بأن الأليق بكتاب الله تعالى مراعاة المعنى دون النظم وكسر الجوار، إنما يصير إليه من رام تغليب النظم على المعنى مثل الشعراء، فأما من رام تغليب المعنى فلا يصير إلى كسر الجوار، ومتى كان حكم الأرجل في المسح مخالفا حكم الرأس، لم يجز الجر بناء على المجاورة في النظم، مع الاختلاف في المعنى، وهذا كلام حسن.
فقيل لهم: بل هما في المعنى متقاربان، فإنهما يرجعان إلى إمساس العضو الماء. فقال في الجواب عنه: إن الشرع أراد تفرقة ما بين البابين فقال: فاغسلوا وجوهكم، ثم قال: وامسحوا.. فلو كانا متقاربين في المعنى لم يقصد إلى التفرقة بينهما. [ ص: 41 ] نعم، ورد في بعض الأشعار:
أعلفتها تبنا وماء باردا
و:
متقلدا سيفا ورمحا
و:
أطفلت بالجلهتين ظباءها ونعامها
لأن العلم باقترانهما أغنى عن التعرض لوجه الاقتران، فأطلق اللفظ الواحد عليهما. وها هنا ما أطلق اللفظ الواحد عليهما، فإنه لو أطلق لفظ المسح على المغسول، لأطلق لفظ الغسل على الجميع إطلاقا واحدا ولم يرجع في الرءوس إلى لفظ المسح، فإن تقارن ما بين المسح والغسل إن اقتضى إطلاق لفظ واحد عليهما، فتقارن ما بينهما يقتضي إطلاق لفظ الغسل على الجميع. ولئن قيل: ذكر المسح لإبانة حكم آخر لا بد من إبانته، فليفرد الأرجل ببيان حكمها المختص بها وهو الغسل، وإذا ثبت ذلك فنقول: نحن وإن سلمنا لهم أن اللفظ ظاهر في المسح، فاحتمال الغسل قائم والذي يتصل به من القرائن يثبته، ومن جملة القرائن قوله تعالى: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ، والبلل الذي يخرج من الماء في خف الماسح، كيف يمتد إلى الكعبين؟ وكيف يمكنهم ذلك ولا يمكنهم أن يقولوا: إنه لا يجب مد الماء إليه؟
فإن ثبت خلاف الإجماع، وصح أنه صلى الله عليه وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء، فقال: [ ص: 42 ] "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء".
وأما الكعبان: فهما العظمتان الناتئتان بين مفصل الساق والقدم. وقال هو مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم، وذلك لا يقوى لأن الله تعالى قال: محمد بن الحسن: وأرجلكم إلى الكعبين فدل ذلك على أن في كل رجل كعبين، ولو كان في كل رجل كعب واحد، لقال: "إلى الكعب"، كما قال تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ، إنما كان لكل واحد قلب واحد، وأضافهما إليه بلفظ الجمع، فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية، دل على أن في كل رجل كعبين.
واعلم أن ظاهر إضافة الغسل إلى الرجل يمنع مسح الخف، إلا أن مسح الخف ورد في الأخبار، فلم يكن نسخا لما في الكتاب بل كان تخصيصا. الاعتراض: أن التخصيص إنما يكون في مسميات يخصص بعضها ويبقى الباقي على موجب الأصل، فإذا جوز المسح، ثم مطلقا، فأين وجوب غسل الرجل؟ وعندكم أنه يتخير بين المسح والغسل أبدا. فأين وجوب غسل الرجل على هذا التقدير، حتى يقال: خرج منه البعض وبقي البعض؟ الجواب: أن معنى التخصيص فيه ظاهر، فإن غسل الرجل ثابت في حق الأكثر، والذي يمسح إنما يمسح مدة معلومة، ثم يرجع إلى الغسل فيغسل، ولا بد للمسح على الخفين من تقديم الطهارة الكاملة حتى يصح [ ص: 43 ] المسح، فوجوب غسل الرجل حاصل في حق كثير من المسميات، فصح معنى التخصص. وهذا بين ظاهر، وإذا ثبت ذلك في أصل والمسح موقوف فيما سوى المدة، وجب الرجوع إلى الأصل. ويحتج على من جوز المسح على الخفين، بإيجاب الله تعالى مسح العمامة فإن تخصيصه لا يجوز إلا بدليل. نعم; غسل الرجلين، فأخبر أنه بعد فعل المفروض من مسح الناصية مسح على العمامة، وذلك جائز عندنا. مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته وعمامته . وفي بعض الروايات على جانب عمامته. وفي بعضها: وضع يده على عمامته،
إذا ثبت هذا فظاهر قوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم يقتضي الإجزاء فرق أو جمع ووالى على ما هو الصحيح من مذهب ، وهو مذهب الأكثرين من العلماء، فاعتبار الموالاة يقتضي من دليل زائد، وليس في الأمر ما يقتضي الفور، وترتيب بعض المأمور على البعض. الشافعي
ويستدل بظاهر الآية على أن وإذا ثبت أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع فيما يتعلق بالزمان، فإذا قال القائل: رأيت زيدا وعمرا، لم يفهم منه أنه رآهما في زمان واحد، أو في زمانين مرتبين، وإذا ثبت ذلك فالواو أجنبي عن اقتضاء هذا المعنى، وإنما هو لترتيب الأفعال بعضها على بعض. [ ص: 44 ] فظاهر الآية يقتضي وجوب إمرار الماء على الأعضاء الأربعة، ولو قال صاحب الشريعة: أمروا الماء على الأعضاء الأربعة; الوجه، واليدين، والرأس، والرجلين، فإذا أمر الماء عليها على أي وجه كان، خرج عن مقتضى الأمر وكان ممتثلا، وليس يجب على المأمور إلا ما اقتضاه ظاهر الأمر. إلا أن التسمية ليست شرطا. يوجب الشافعي تلقيا من إدراج الممسوح في تضاعيف المغسولات، وأن ذلك لا يكون إلا عن قصد ترتيب الأشياء على النسق المذكور، كما قررناه في مسائل الفقه. الترتيب
فإن قيل: فالأرجل معطوفة في المعنى على الأيدي، وأن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤوسكم، وإنما يمكن رد الرجل إلى اليد على تقدير رفع الترتيب.
قلنا: هذه جهالة، فإن الذي قلتموه ترتيب في المعنى ورد من هذه الجهة، وإن حصل الترتيب من حيث الزمان، ولو رتب البعض على البعض بكلمة، ثم لكان الذي ذكروه ممكنا، ولا حاصل لما قالوه.
واستنبط أصحاب من هذه الآية، أن أبي حنيفة لأن الله تعالى لما قال: الاستنجاء لا يجب إذا قمتم إلى الصلاة كان الحدث مضمرا فيه، وتقديره: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون. وقال في نسق الآية: أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء . فلم يوجب عليه أكثر من المذكور، وذلك يدل على أنه إذا أتى بالمذكور استباح الصلاة. [ ص: 45 ] أو قال: أو جاء أحد منكم من الغائط ، وهو كناية عن الخارج النجس، ولم يقل: اغسلوا موضع الخارج، وإنما قال: فاغسلوا وجوهكم. فيقال لهم: إن الذي ذكرتم ليس يدل على ما استنبطتموه، وذلك أن المراد منه بيان غسل ما لا يظهر أثر الخارج في غسله، وهو أعضاء الوضوء، فأما إزالة النجاسات عن البدن والثوب وغيرهما من المواضع النجسة، فحكمها مأخوذ من موضع آخر، وليس يقتضي بيان حكم الوضوء بيان حكم شرائط الصلاة كلها، فإن الصلاة موقوفة إجماعا على ستر العورة، ولا ذكر له في هذه الآية، وموقوفة على طهارة البدن والثوب مما فوق النجاسة التي يعفي عنها على مذهبكم، ولم يكن السكوت عنه مانعا عدم اشتراط السكوت عنه في إجزاء الفعل، فاعلمه..