قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة
عموم في السمك والجراد وغيرهما.
وللناس كلام في جواز تخصيص عموم كلام الله تعالى بالسنة، وقد روى عن أبيه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن عمر
. "أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالطحال والكبد"
وقد روى عمرو بن دينار في قصة جيش الخبط : جابر
فإن البحر ألقى إليهم حوتا أكلوا منه نصف شهر، فلما رجعوا إلى النبي عليه السلام فأخبروه، فقال: هل عندكم منه شيء تطعموني؟ عن
وبالجملة: الخبر عام، وأيضا الكتاب عام، فإذا وقع التنازع في الطافي ، لم يصح الاستدلال بعموم الخبر على عموم الكتاب..
ومنهم من يستدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى:
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم . [ ص: 33 ] وهذا مع عمومه لا يصلح لتخصيص عموم تحريم الميتة.
واستدلوا عليه بقول النبي عليه السلام أنه قال في حديث صفوان بن سليمان الزرقي. عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة (عن أبي هريرة)
"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" .. عن النبي عليه السلام أنه قال في البحر:
وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالثبت، وقد خالفه في سنده فرواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله عليه السلام، ومثل هذا الاضطراب في السند يوجب اضطراب الحديث، وغير جائز تخصيص آية محكمة به.
وقد روى زياد بن عبد الله البكائي قال: حدثنا قال: حدثنا أصحابنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سليمان الأعمش،
"البحر الزكي صيده، والطهور ماؤه" ..
وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول.
وقد روي فيه حديث آخر، وهو ما رواه عن يحيى بن أيوب، جعفر بن ربيعة عن وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، أبي معاوية العلوي، عن عن مسلم بن إبراهيم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر: جابر بن عبد الله
.. "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"
قال وهو الذي روى هذه الأخبار: أبو بكر الرازي،
وحدثنا عبد الباقي بن قانع، قال أنبأنا قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: أخبرنا أحمد بن حنبل أبو القاسم بن أبي الزناد قال:
[ ص: 34 ] حدثنا إسحاق بن حازم، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، . عن النبي عليه السلام أنه سئل عن البحر، فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"
وأما فإنه يروي حديث أبو عيسى الترمذي سعيد بن سلمة في صحيحه، ويقول: إنه من آل ابن الأزرق، ويقول: إن المغيرة بن أبي بردة- وهو من بني عبد الدار- أخبره أنه سمع يقول: أبا هريرة
فقال عليه السلام: "البحر هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" . "سأل رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من البحر؟ ..
قال وفي الباب عن أبو عيسى: جابر والفراسي، ثم قال وهذا حديث حسن صحيح..
وروى عن الرازي أنه قال: علي
"ما طفا من صيد البحر فلا تأكله" .
وروى أيضا عن جابر كراهة الطافي. وابن عباس
وروى عن أبي بكر الصديق إباحة الطافي من السمك.. وأبي أيوب
وروى في أحكام القرآن- بإسناد له متصل عن الرازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جابر-
.. [ ص: 35 ] وروى بإسناد آخر عن "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جابر
. "ما جزر البحر عنه فكل ، وما ألقى فكل، وما وجدته طافيا فوق الماء فلا تأكل"
وروى بإسناد آخر عن عن أبي الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جابر
.. "إذا صدتموه (وهو حي) فكلوه، وما ألقى البحر (حيا) فمات فكلوه وما وجدتموه ميتا طافيا فلا تأكلوه"
وروى بإسناد آخر عن جابر:
.. "ما وجدتموه وهو حي (فمات) فكلوه، وما ألقى البحر طافيا ميتا فلا تأكلوه"
وروى سفيان الثوري، وأيوب، عن وحماد موقوفا على أبي الزبير جابر..
وبالجملة: هذه الأخبار لا نعرف صحتها على ما يجب، ولكن الإشكال في عموم كتاب الله تعالى، ويقابله أن عموم كتاب الله تعالى اتفقت الأمة على تطرق التخصيص إليه في غير الطافي من ميتات السمك فلم يبق وجه العموم معمولا به، وصار الحديث المتفق على صحته واستعماله في غير الطافي معمولا به في الطافي..
وروى أصحابنا عن عن سعيد بن بشير، أبان بن أبي عياش، عن أن النبي عليه السلام قال: [ ص: 36 ] أنس بن مالك "كل مما طفا على البحر" ..
وأبان بن أبي عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته.
وقال لأن أزني سبعين زنية أحب إلي من أن أروي عن شعبة: أبان ابن أبي عياش..
وقد أباح الميتة من الجراد ، ومستنده قوله عليه السلام: أبو حنيفة
، وقضى بذلك على عموم الكتاب في "أحلت لنا ميتتان" مع أن تحريم الميتة، يقول في الجراد أنه إذا أخذ حيا وقطع رأسه وشوي أكل، وما أخذ منه حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل، إنما هو بمنزلة ما وجد ميتا قبل أن يصاد فلا يؤكل عنده، وهو قول مالكا الزهري وربيعة..
وقال ما قتله مجوسي فلا يؤكل.. مالك:
وقال أكره الجراد ميتا، فأما إذا أخذته وهو حي فلا بأس به الليث بن سعد:
"أكثر جنود الله: لا آكله ولا أحرمه" ولم يفصل بين ما مات وبين ما قتله آخذه.. وقال النبي عليه السلام في الجراد:
وقال عطاء غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبنا جرادا فأكلناه.. جابر: [ ص: 37 ] عن "غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فنأكل الجراد ولا نأكل غيره" عبد الله بن أبي أوفى: .. وقال
وكانت تأكل الجراد وتقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله" عائشة ..
وهذه الأخبار مستعملة بالإجماع في تخصيص بعض ما تناوله عموم الكتاب في السمك والجراد، وذلك يدل على بطلان مذهب في الجراد، ومذهب مالك في الطافي.. أبي حنيفة
ولأن إسالة الدم إذا لم تعتبر فأي معنى لاشتراط الذكاة في النوعين، وأي أثر للآدمي واصطياده؟ ..
ودل ظاهر تحريم الميتة والمنخنقة على تحريم الأجنة كما قاله وخالفه فيه صاحباه مع أبو حنيفة، الشافعي..
يقول: إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا لم يؤكل : ومالك
وهو قول لأنه عند تمام خلقه تحصل فيه الحياة والذكاة، وقبل ذلك لا حياة، فيبقى على عموم تحريم الميتة. سعيد بن المسيب،
وذلك ضعيف، فإنه إن لم يكن حيا فلا يكون ميتة، فالميتة ما زايلتها الحياة..
وقد وردت أخبار في أن ذكاة أمه، وبعد حملها على [ ص: 38 ] أن ذكاة الجنين مثل ذكاة الأم فإنه عند ذلك لا يكون جنينا، وإذا تم خرج حيا وفيه حياة مستقرة، فلا يخفى حكم الذكاة، فلا يكون في ذكره فائدة.. ذكاة الجنين
وقد روى عن مجالد أبي الوداك، عن أبي سعيد،
"إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه" . أن النبي عليه السلام سئل عن الجنين يخرج ميتا فقال:
وأما فإنه ذهب إلى ما روى في حديث مالك سليمان بن عمران عن ابن البراء، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في أجنة الأنعام بأن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت.
وروى عن الزهري ابن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:
"إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه" ..
يقول: "نحن نقول بهما جميعا، إلا أن ذكر الإشعار كان تنبيها على مثله في الذي هو أولى بكونه جزءا من الأم" . والشافعي
واقتضى عموم تحريم الميتة المنع من دبغ جلدها، لولا الخبر المخصص واقتضى ظاهر الآية أيضا وروى فيه تحريم الانتفاع بدهن الميتة، عن محمد ابن إسحاق، عن عطاء، قال: [ ص: 39 ] جابر لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك فقالوا: يا رسول الله، إنا نجمع هذه الأوداك وهي من الميتة وغيرها، وإنما هي للأدم والسفن، فقال صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى إذا حرم شيئا حرمه على الإطلاق، ودخل تحته تحريم البيع..
وذكر عن أنه قال: يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، وهذا قول شاذ، فظن أصحاب عطاء أن تحريم الله تعالى عين الميتة منع الانتفاع بالميتة من الوجوه كلها، ومنع بيعها، ويجوز بيع الأعيان النجسة غير الميتة، إذ التحريم فيها ليس مضافا إلى العين. أبي حنيفة
قال رحمه الله: ينبغي من قوله: الشافعي حرمت عليكم الميتة تحريم لبنها، حكم بطهارة أنفحتها وألبانها، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجيس ما جاوره بما حدث فيه خلقة، قال: وأبو حنيفة
ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق مع القطع بمجاورة الدم لدواخلها من غير غسل ولا تطهير لها، فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه، ويلزمه على مساق هذا الحكم بطهارة ودك الميتة، فإن الموت لا يحله أصلا، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها..
وله أن يقول: إن الودك في حكم الجزء الباقي معه، واللبن خلق خلقا ينفصل عن الأصل فيحتلب ويستخرج منه، ولو انفصل الودك من الجملة في حياة الجملة كان نجسا بخلاف اللبن، فإذا لم ينجس اللبن [ ص: 40 ] في حالة الحياة إذا انفصل فإنما ينجس بالمجاورة، ونجاسة الخلقة لا تؤثر فيما جاورها.
والشعر والعظم من جملة الميتة، فعموم التحريم يشملهما.
قوله تعالى: "والدم" أوجب وقال في موضع آخر: تحريم الدم مطلقا،
أو دما مسفوحا ، فلعل التقييد بالسفح تنبيه على ما يمكن سفحه ليخرج منه الكبد والطحال ، أو لئلا تتبع العروق وما فيها من الدم في اللحم ..
وقال تعالى: ولحم الخنزير بعد قوله: حرمت عليكم الميتة ، وقال: إلا أن يكون ميتة - إلى قوله- أو لحم خنزير فإنه رجس ، فخص اللحم بالذكر، ولم يقل "حرمت الخنزير" كما قال: "حرمت الميتة" لأنه معظم ما يقصد منه، وفيه مراغمة للكفار الذين يتدينون بأكل لحمه، ومثله تحريم قتل الصيد [ ص: 41 ] مع تحريم جميع الأفعال في الصيد. ونص على لأنه أعظم ما يبتغون به منافعهم. تحريم البيع إذا نودي للصلاة
فقيل لهم: فلم لا يخص كجسم الميتة تنبيها على الإجزاء؟ ..
فأجابوا بأنه أريد به مراغمة الكفار في تخصيص اللحم الذي هو أعظم مقاصدهم من الخنزير بالتحريم..
قوله تعالى: وما أهل به لغير الله ، ولا يرى ذلك أصحابنا محرما إلا من جهة الاعتقاد، ومقتضاه أن النصراني إذا سمى المسيح على الذبح يحل، وهو ظاهر مذهب ومذهب الشافعي، عطاء، ومكحول، والحسن، والمشرك وإن ذبح على اسم الله تعالى لا يحل. وسعيد بن المسيب،
ونقل عن خلاف ذلك في النصراني يذبح على اسم الشافعي المسيح، وليس بصحيح، فإن الله تعالى أباح لنا أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح، وأن النصراني إذا سمى الله عز وجل ثالث ثلاثة فإنما يريد بمطلقه المسيح، وذلك معلوم من اعتقاده، وبه كفرناه، وليس كالمنافق الذي ليس يحكم بكفره ظاهرا بما يعتقده، والنصراني حكم بكفره لما يعتقده من الشرك فلا يغيره بالتسمية مع الاعتقاد القبيح .
قوله: فمن اضطر غير باغ ولا عاد يحتمل غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل، ويحتمل العدوان بالسفر، فلا جرم اختلف قول في إباحة الشافعي أكل الميتة للمضطر العاصي بسفره.
ويشهد لأحد القولين قوله تعالى: إلا ما اضطررتم إليه ، فإنه عام.
ويشهد للقول الآخر قوله: ولا تقتلوا أنفسكم ... [ ص: 42 ] وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة، بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا.
وليس تناول الميتة من رخص السفر، أو متعلقا بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرا كان أو حضرا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء، وهو الصحيح عندنا..