قوله تعالى : فاجلدوا .
قصد به بيان المبالغة في الزجر، وعقبه بقوله : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، الآية \ 2.
فكيف ينتظم مع هذا أن يكون الرجم مشروعا في ذلك الوقت في حق الثيب، وهم كثر الناس أو شطرهم، ولا يتعرض له أصلا ولا يذكره؟
فلا بد أن يقال : إن في ذلك الوقت ما كان الرجم مشروعا، ثم شرع الله تعالى الرجم بعده، فصار ناسخا للجلد في حق الثيب، وليس يجوز إطلاق لفظ التخصيص في كل موضع، بل للكلام قرائن أحوال، يعلم بها مقصود المتكلم ضرورة، وهذا مما لا يمكن فيه إغفال الرجم وإرادة الجلد في حق الأبكار، فإنه يتضمن ما ذكرناه، فلا يجوز أن يقال : إن الرجم قد كان في حق المحصن، لكنه لم يذكر في هذه الآية.
واختلف الناس في العبد، هل يدخل فيه، وكذلك الأمة؟ والصحيح أنهم دخلوا فيه، ولكن خصصوا بقوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب .
[ ص: 292 ] ويجوز أن يطلق قوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، الآية \ 2. ولا يراد به العبيد والإماء، لأن المقصود به المبالغة في الزجر، وذلك يقتضي بيان الأكثر الأعظم من الزاجر.
واختلفوا في الذمي هل يدخل فيه؟ ومذهب أن الذميين لا يحدان إذا زنيا، والظاهر ينفي الفرق بين المسلم والكافر. مالك،
إذا ثبت هذا، فقد قال الله تعالى : فاجلدوا ، وهذا عام، إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام هو الذي يتولى ذلك في حق الرعايا، والسيد في حق مملوكه عند وإذا لم يكن إمام، فإن أفضى استيفاء الحدود من جهة صلحاء الناس إلى هرج وفتنة لم يجز، وإن لم يفض إليه جاز. الشافعي،
ثم لم يختلف السلف في أنه كان جلد الزانيين في ابتداء الإسلام ما قاله الله تعالى : فأمسكوهن في البيوت ، فآذوهما فكان حد المرأة بالحبس، والأذى بالتعيير، وكان حد الرجل بالتعيير، ثم نسخ في غير المحصن بقوله : الزانية والزاني فاجلدوا ، مع ما بينا فيه من الكلام، وفي المحصن الرجم، وكأن حديث بعد قوله تعالى : عبادة واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم . وقد قال عليه الصلاة والسلام : " ". وبين النبي عليه الصلاة والسلام بحديث خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا المراد بالسبيل. عبادة
إذا ثبت هذا، فقد اختلف العلماء في المحصن وغير المحصن كما [ ص: 293 ] قدمناه من قبل، يضم النفي إلى الجلد في حق البكر، وليس في الآية ما ينفيه، فإن النفي يجوز أن لا يذكر عند ذكر مائة جلدة وإشهار المجلود به، وهذا مما شرحناه في مسائل الفقه، وليس في الظاهر ما ينفي الحد ولا ما يثبته، فهو مأخوذ من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشافعي
وأوجب الرجم على الذميين، كما أوجب على المسلمين، تلقيا من الخبر النص في حق الذميين من عموم قوله عليه الصلاة والسلام : " الشافعي ". الثيب بالثيب جلد مائة والرجم
يقول : إنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لم يكن لليهود من ذمة، وتحاكموا إليه فحكم بينهما بحكم التوراة، فلم يكن في قتله نقض ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بعد في إجراء أحكامهم عليهم، وهذا بعيد، فإن قتل الكافر إن جاز، فإنما يجوز بغير وجه الرجم، والرجم لم يكن مشروعا، فيحرم بحكم شرعنا، فكيف يجوز إجراؤه عليهم على موجب دينهم؟ ومالك
وإذا ثبت ذلك، فقد قال تعالى : فاجلدوا ، فالظاهر يقتضي فعل أول ما يسمى جلدا، فإذا فعله واستوفى العدد، فقد وفي الظاهر حقه، وما زاد على ذلك على أصل التحريم.
ولا يجوز أن يتخير الجلاد بين التخفيف والتشديد، فإنه لا يجوز أن يتخير الإنسان بين عقوبة مسلم وتركها.
والمفسرون والفقهاء، حملوا ظاهر الآية على ما جرت به العادة من فعل الضرب أو التأديب.
[ ص: 294 ] وروى علي بن موسى القمي أنه صلى الله عليه وسلم أوتي برجل قد أصاب حدا، وأوتي بسوط شديد، فقال : دون هذا، وأوتي بسوط دونه فقال : هذا.
وروي عن رضي الله عنه أنه أمر برجل يضرب الحد فقال : لا ترفع إبطك. عمر
وعنه أنه اختار سوطا بين السوطين.
فيجب اتباع السنة في ذلك وهو المتعارف في الضرب، ولم يختلفوا في أن هذا الجلد يفرق على جسمه، لأنه المتعارف المتعالم، فإنه إن جمع في مكان واحد خيف عليه القتل، وخرج عن طريقة الضرب.
ولا خلاف أنه يتقي في باب الضرب مواضع المقاتل، والمواضع التي يشين الأثر فيها كالوجه والمذاكر. . وكل ذلك ليس مأخوذا من اسم الجلد، وإنما هو مأخوذ من معنى الحد، والمقصود به.
وظن ظانون أن معنى قوله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، تشديد الضرب. وروي ذلك عن قتادة.
وقال وأصحابه : التعزير أشد الضرب. أبو حنيفة
وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب.
وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف. . وقال : ضرب الزنا أشد من ضرب القاذف. الثوري
وضرب القذف أشد من ضرب الشرب.
والظاهر يقتضي التسوية، وهو مذهب مالك والشافعي.