ثم قال تعالى : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ، الآية \ 33.
قال : ثم أمر من يكاتب بالإيتاء، ولا يتصور هذا الإيتاء إلا من جهة حط شيء، ولا يمكن حمله على الزكاة فإن السيد لا يجب عليه أن يفرق الزكاة إلى عبده إجماعا. الشافعي
ولا شك أن ظاهر اللفظ لا يقتضي الحط، لأنه ليس بإيتاء للمال، وإنما يدل عليه من حيث المعنى، لأن قوله : من مال الله الذي آتاكم ، لا بد أن يحمل على ملك تجدد بعد الكتابة، وصار مالا مستحقا للسيد، فمن هذا الوجه حسن إطلاق هذا اللفظ عليه.
[ ص: 317 ] وقال في الرد على إسماعيل بن إسحاق : كيف تكون الكتابة ندبا والإيتاء واجبا؟ وإذا تبرع به لزمه أحكامه وتوابعه والقضايا المتعلقة به؟ ومعلوم أن النكاح غير واجب، وإذا نكح وجب فيه أحكام لها، وإذا طلق فلها المتعة واجبة على الزوج. الشافعي
ومما ذكر أن إطلاق مال الله تعالى لا يقتضي إلا الزكاة، ومال الله تعالى في عرف الشرع لا يفهم منه إلا الزكاة، وما عداه لا يضاف إلى الله تعالى بحكم الإطلاق، وقد قسم الله تعالى الحقوق إلى ما يضاف إلى الله عز وجل، وإلى ما يضاف إلى الآدمي، وإن كان الكل حقا لله تعالى.
والجواب أن هذا لما وجب بحق الله تعالى، ولغرض الحرية، حسن أن يقال : مال الله تعالى، لأنه قصد به وجه الله عز وجل وتحصيل ثوابه.
وربما قالوا : إن السيد لا يستحق على المكاتب مالا، حتى يصح أن يقال في الحط، إنه مال آتاه السيد، إنما كان مستحقا له، فأما ما ليس مستحقا له فلا يقال فيه توهم ما يملكه ويستحقه، فإذا لم يكن دين المكاتب مستحقا عليه، فمن أي وجه يوصف السيد بأنه آتاه مالا، وما آتاه شيئا ملكه، ولا شيئا استحقه.
ويجاب عنه بأنه يجوز أن يطلق ذلك، إذا كان المال ينساق إليه، فكأنه آتاه ماله من حيث إنه ينساق إليه.
وبالجملة، قوله : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ، مجاز في الحط من وجوه بينة وحقيقة في الزكاة، وقوله : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم ، حقيقة أنه خطاب للسادة الذين يكاتبون، مع أنه يجوز أن يحمل على وجه آخر بطريق المجاز، فلم يسلم كل واحد من المحملين على مجاز، فإن كان كذلك، فلا يظهر مذهب من حيث التعلق بالظاهر، ويتجه الشافعي أن يقول : إيتاء المكاتب [ ص: 318 ] الصدقات فهم من قوله تعالى : للشافعي وفي الرقاب ، فهذا لا بد أن يكون له فائدة زائدة، تشهد له أن ما آتاه الواحد منا، يجب أن يكون على وجه إذا حصل عند المعطى يتصرف فيه، ولم يحصل للسيد عليه بدلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه، ولو كان الإيتاء واجبا، لكان وجوبه متعلقا بالعبد، ويكون العبد هو الموجب وهو المسقط وذلك مستحيل، لأنه إذا كان العبد يوجبه وهو بعينه يسقطه، استحال وجوبه، لتنافي الإيجاب والإسقاط.
وبالجملة، ما صار مستحق الإسقاط فحكمه أن يسقط، ولا نعرف في مسائل الشرع مسألة أعوص على أصحاب من مسألة الإيتاء، ولا معتمد لهم فيها إلا آثار الصحابة، وهي معتمدة قوية ذكرناها في كتاب المصنف في الروايات. الشافعي
واعلم أن الكتابة من الأسماء الشرعية، فإنها على الوجه الذي ثبت في الشريعة لم تكن معلومة، فحل ذلك محل الصلاة والصيام.
ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من قال : يعقل من ظاهرها التأجيل : إذا لم يكن شرطا فيها لم تكن كتابة.
وقال بعضهم : بل لا يعقل ذلك من الظاهر، وهذا أظهر، فإن الشيء قد يكتب ولا تأجيل فيه، كما قد يكتب وهناك تأجيل، فالظاهر لا يدل على ذلك، وقول من يقول إنها تجوز حالة، وقول من يقول لا تجوز إلا مؤجلة أو منجمة موقوف على الدليل، لأن الظاهر لا يشهد بأحد هذه الوجوه.
[ ص: 319 ] واختلفوا في فقال بعضهم : يكفي أن يكاتبه على دراهم معدودة فيعتق بالأداء في وقته. صورة الكتابة،
وقال بعضهم : بل لا بد أن يقول : فإذا أديته إلي فأنت حر، ليجمع بين العقد وبين تعليق الحرية بالصفة، لأن عنده أن العقد بينه وبين السيد لا يصح، فتحريره له تعلق بصفة تصح، فلا بد من ضم ذلك إليه.
ولم يختلفوا في أن ذلك رخصة، لأنا لو خلينا العقل، لكان يبطل، لأنه أزال ملكه بملكه، إذ الذي تحصل في يده ملك للمولى، لكنه بعقد الكتابة جعل لما يحتوي عليه حكم مخصوص، لم يبلغ حد الملك، ولا وقف على الحد الذي كان وهو رقيق خالص.
وأحكام الكتابة مبينة في مسائل الفقه.