ولما أرشد ختم الآية إلى العلة الحاملة على الامتثال علل بعلة أخرى فقال : ما يود الذين كفروا مطلقا من أهل الكتاب اليهود والنصارى ، ولا من المشركين بأي نوع كان من أنواع [ ص: 88 ] الشرك بغضا فيكم حسدا لكم أن ينـزل عليكم وأكد الاستغراق بقوله : من خير من ربكم أي : المحسن إليكم ، فكأنه قيل : للسماع علتان حاملتان عليه داعيتان إليه : إحداهما : أخروية وهي النعيم للمطيع والعذاب للعاصي ، والأخرى دنيوية وهي مخالفة الأعداء ، فإنهم ما يودون أن ينزل عليكم شيء لكم فيه خير فضلا عن أن تمتثلوه ، ومخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة من ذوي الأدوات الكاملة ، ولم يعطف ما يود لأنه مع ذلك علة للعلة ، فكأنه قيل : لهم عذاب أليم لأنهم يودون لكم خيرا ; فسماعكم من جملة عذابهم ، لأنه واقع على خلاف ودادتهم مع ما يدخر لهم في الآخرة بكفرهم وتمنيهم كفركم ، ولا يخفى ما فيها وفي التي بعدها من التحريض على الكتاب الذي لا ريب فيه .
ولما بين سبحانه ما يودون أتبعه التعريف بأن له التصرف التام ، رضي من رضي وسخط من سخط فقال معلقا الأمر بالاسم الأعظم [ ص: 89 ] الجامع : والله أي : ما يودون ، والحال أن ذا الأسماء الحسنى يختص ولما كان المنزل أتم الرحمة عبر عنه بقوله : برحمته التي وسعت كل شيء من الهداية والعلم وغير ذلك ، من يشاء أي : يجعله مختصا أي : منفردا بها من بين الناس ، ولو كان عند غيره بمحل الاحتقار كما كان العرب عند بني إسرائيل لما كانوا يرون من جهلهم وضلالهم وجفائهم واختلال أحوالهم ; و "الاختصاص " : عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره ، و "الرحمة " : نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه ، أدناه كشف الضر وكف الأذى ، وأعلاه الاختصاص برفع الحجاب ، قاله الحرالي . ولما كان ذلك ربما أوهم أنه إذا فعله لم يبق من رحمته ما يسع غير المختص نفاه بقوله مصدرا له بالاسم الأعظم أيضا عاطفا على ما أفهمه الاختصاص من نحو أن يقال [ ص: 90 ] تعريضا باليهود : فالله بمن يزوي عنه الرحمة عليم ، والله أي : الملك الأعلى الذي له جميع العظمة والرحمة فلا كفؤ له ، ذو الفضل العظيم أي : الذي لا يحصر بحد ولا يدخل تحت عد .