بقوله تعالى: يسألونك أي: الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك - وسيأتي بيانه، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات، وإنما همهم العبادة، والذين عندك إنما جعلتهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون عن الأنفال التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعاذة بالله منها - كما نبه عليه آخر الأعراف - لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداء، وهو جمع نفل - بالتحريك، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه، والمراد بها هنا الغنيمة، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهرا، سميت هنا بذلك؛ لأن أصلها في اللغة الزيادة، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم.
ولما كان السؤال عن حكمها، كان كأنه قيل: فماذا يفعل؟ فقال [ ص: 218 ] دالا على أنهم سألوا عن مصرفها وحكمها - ليطابق الجواب السؤال: قل أي: لهم في جواب سؤالهم: الأنفال لله أي: الذي ليس النصر إلا من عنده لما له من صفات الكمال والرسول أي: الذي كان جازما بأمر الله مسلما لقضائه ماضيا فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بمواقعة العدى; قال أبو حيان : ولا خلاف أن الآية نزلت في يوم بدر وغنائمه، وقال ابن زيد : لا نسخ، إنما أخبر أن من حيث إنها ملكه ورزقه، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله والصادع فيها بأمره ليقع التسليم من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك. انتهى. الغنائم لله
ولما أخبر سبحانه أنه لا شيء لهم فيها إلا عن أمر الله ورسوله، وكان ذلك موجبا لتوقفهم إلى بروز أمره سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت التقوى موجبة للوقوف خوفا حتى يأتي الدليل الذي يجسر على المشي وراءه، سبب عن ذلك قوله: فاتقوا الله أي: خافوا خوفا عظيما في جميع أحوالكم من الذي لا عظمة لغيره ولا أمر لسواه، فلا تطلبوا شيئا بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتخاصموا؛ فإن الله تعالى الذي رحمكم بإرسال رسول لنجاتكم وإنزال كتاب لعصمتكم غير مهمل ما يصلحكم، فهو يعطيكم ما سبق في علمه الحكم بأنه [ ص: 219 ] لكم، ويمنعكم ما ليس لكم. وأصلحوا ذات بينكم أي: الحال التي هي صاحبة افتراقكم واجتماعكم، فإن أغلب أمرها البين الذي هو القطيعة، وقد أشرفت على الفساد بطلب كل فريق الأثرة على صاحبه فأقبلوا على رعايتها بالتسليم لأمر الله ورسوله الآمرين بالإعراض عن الدنيا ليقسمها بينكم على سواء، القوي والضعيف سواء، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، لتجتمع كلمتكم فيشتد أمركم ويقوى أزركم فتقدروا على إقامة الدين وقمع المفسدين وأطيعوا الله أي: الذي له جميع العظمة ورسوله أي: الذي عظمته من عظمته في كل ما يأمرانكم به من تنفيل لمن يراه وإنفاذ شرط ووفاء عهد لمن عاهده.
ولما أمر ونهى هيج وألهب فقال مبينا كون الإيمان مستلزما للطاعة: إن كنتم مؤمنين أي: صادقين في دعوى الإيمان، فليس كل من يدعي شيئا يكون صادقا في دعواه حتى يحصل البيان بالامتحان، ولذلك وصل به قوله مؤكدا غاية التأكيد لأن التخلص من الأعراض الدنيوية عسر.