ولما كان أكثر المثيرين لهذه الشكوك في صور أهل الإسلام ، قال تعالى مخاطبا للمؤمنين وهم في غمارهم تنفيرا لهم عن الضلال الذي هو في نفسه أهل لأن ينفر عنه فكيف وهو شماتة العدو وبتخييله وودادته تحذيرا لهم من مخالطتهم : ود كثير   ، وهو تعليل لمعنى الكلام وهو : فلا تتبدلوا الكفر بالإيمان ، بعد تعليله بالضلال ; وذلك كما مضى في : ما يود الذين كفروا  سواء . 
ولما كان المشركون عربا عالمين بأن طبع العرب الثبات لم يدخلهم معهم في هذا الود ، وقال : من أهل الكتاب  فأنبأ أن المصافي منهم قليل وبشر سبحانه بأن ما يودونه من قسم المحال بسوقه سوق المتمني فقال : لو يردونكم  أي : بأجمعكم ; ثم حقق أمر التمني في كونه محالا مشيرا بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير ، فقال : من بعد إيمانكم  أي : الراسخ ، كفارا  أي : لتكونوا مثلهم فتخلدوا معهم في النار ، حسدا  على ما آتاكم الله من الخير الهادي إلى الجنة ، والحسد : قلق النفس من رؤية النعمة على الغير ، وعبر عن بلوغ الحسد  [ ص: 105 ] إلى غاية لا حيلة معها في تركه بقوله : من عند أنفسهم  أي : أنه راسخ في طبائعهم فلا تطمعوا في صرفه بشيء ، فإن أنفسهم غالبة على عقولهم ، ثم زاده تأكيدا بقوله مشيرا بإثبات الجار إلى ذمهم بأنهم استمروا على الضلال بعد الدعوة لا يطلبون الحق مع القدرة على تعرفه ، حتى هجم عليهم بيانه وقهرهم عرفانه ، ثم لم يرجعوا إليه ; وما كفاهم ضلالهم في أنفسهم حتى تمنوا إضلال غيرهم بالرجوع عنه ، من بعد ما تبين  أي : بيانا عظيما بوضوحه في نفسه ، لهم الحق  أي : من صحة رسالة محمد  صلى الله عليه وسلم ، وأنه خاتم النبيين المرسل إلى الناس  [ ص: 106 ] كافة بشهادة ما طابقه من التوراة ، ومن أنهم خالدون في النار ، لأنهم ممن أحاطت به خطيئته بما دل عليه سبحانه في جميع هذه الآيات إبطالا لدعواهم في مس النار لهم أياما معدودة . 
ثم أرشد إلى الدواء بقوله مسببا عن الإخبار بأن ودهم محال وبعدم رجوعهم : فاعفوا  أي : عاملوهم معاملة العافي بأن لا تذكروا لهم شيئا مما تظهره تلك الودادة الناشئة عن هذا الحسد من الأقوال والأفعال ولا تأخذوا في مؤاخذتهم به ، فإنهم لا يضرونكم ولا يرجعون إليكم ، واصفحوا  أي : أظهروا لهم أنكم لم تطلعوا على شيء من ذلك ، وأصل معناه من الإعراض بصفحة العنق عن الشيء كأنه لم يره ، وأمرهم بمطلق الصفح ولم يقيده بالجميل الذي اختص به خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم في قوله : فاصفح الصفح الجميل  لتنزل الخطاب على مراتبه ومستحق مواقعه ، وحثهم على أن يكون فعلهم ذلك اعتمادا على تفريجه سبحانه بقوله : حتى يأتي الله  الذي لا أمر لأحد معه بأمره  فبشرهم  [ ص: 107 ] بذلك بظهورهم على من أمروا بالصفح والعفو عنهم ، وقد كان مبدأ ذلك ويتم في زمن عيسى  عليه السلام . 
ولما كان النصر وهم في القلة والضعف بحال عظيم وقوة عدوهم وكثرتهم أعظم مستبعدا قال : إن الله  وأظهر موضع الإضمار تحقيقا للبشرى بالإيماء إلى استحضار ما يدل عليه هذا الاسم الأعظم من صفات الجلال والإكرام ، على كل شيء قدير  ففي هذا الختم بشرى للمؤمنين بتقديرهم كما أن في الختم بالعلم بشرى بتعليمهم ، وفي إفهامه نذارة للكافرين بمقابل ذلك . 
				
						
						
