ولما أنزل البراءة، أمر بالإعلام بها في المجمع الأعظم ليقطع الحجج، فقال عاطفا ظهرة الجملة إلى مضمونها: الإخبار بوجوب الإعلام بما ثبت بالجملة الأولى المعطوفة عليها من البراءة: وأذان أي: وهذا إعلام وإعلان واقع وواصل من الله أي: المحيط بجميع صفات العظمة ورسوله أي: الذي عظمته من عظمته، فلا يوجهه إلى شيء إلا أعلاه عليه; ولما كان المقصود الإبلاغ الذي هو وظيفة الرسول، عداه بحرف الانتهاء فقال: إلى الناس أي: كلهم من أهل البراءة [ ص: 373 ] وغيرهم يوم الحج الأكبر قيده لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
ولما كان كأنه قيل: ما هذا الإعلام؟ قال مفسرا له مصرحا بما هو المقصود لئلا يقع فيه نوع لبس حاذفا الصلة إعلاما بأن هذا مستأنف على تقدير سؤال سائل، لا معمول لأذان: أن الله أي: الذي له الغنى المطلق والقوة الباهرة بريء من المشركين أي: الذين لا عهد لهم خاص فلا مانع من قتالهم، قيل: والذين وقعت البراءة منهم صنفان: أحدهما كانت مدته دون أربعة أشهر فرفع إليها، والآخر مدته بغير حد فقصر عليها، ومن لم يكن له عهد فهو أولى، ومن كان عهده محدودا بأكثر من أربعة أشهر ولم يحدث شرا أمر بإتمام عهده إلى مدته ورسوله أي: بريء منهم، فهو مرفوع عطفا على المنوي في "بريء" أو على محل " أن " المكسورة واسمها عند من كسرها، وقرئ بالنصب عطفا على اسم : أن " أو لأن الواو بمعنى مع، وبالجر على الجوار، وقيل: على القسم - قاله في الكشاف: قال: ويحكى أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال: إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى رضي الله عنه فحكى الأعرابي قراءته، فعندها أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية، وروى عمر الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في مقدمة كتاب الوقف والابتداء بسنده عن ابن أبي مليكة قال: قدم أعرابي في زمان رضي الله عنه فقال: من يقرئني [ ص: 374 ] مما أنزل الله على عمر محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل براءة فقال: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" بالجر، فقال: أوقد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ رضي الله عنه مقالة الأعرابي فدعاه - يعني فسأله فأخبره - فقال عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي! قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين ؟ فقال: عمر أن الله بريء من المشركين ورسوله فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر رضي الله عنه أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة. عمر بن الخطاب
وأمر أبا الأسود فوضع النحو، ونحو ذلك في الاهتمام بشأن العربية ما حكاه الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة في كتابه في الأنساب في ترجمة بسنده إليه أنه قال: دخلت على أبي الأسود الدؤلي رضي الله عنه فرأيته مطرقا مفكرا فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إني سمعت ببلدكم هذا لحنا، فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية، فقلت له: إن فعلت هذا بقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيام فألقى إلي صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة [ ص: 375 ] المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل: ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر، قال أمير المؤمنين علي : فجمعت أشياء فعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها: إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم أذكر لكن، فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها فيها، فقال: بل هي منها فزدها فيها، وقال أبو الأسود الدؤلي أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في طبقات النحويين: وقال أبو العباس محمد بن يزيد: سئل عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه، فقال: تلقنته من أبو الأسود الدؤلي ، وفي حديث آخر: ألقى إلي أصولا احتذيت عليها; وفي مختصر طبقاتهم علي بن أبي طالب للحافظ محمد بن عمران المرزباني: كان رضي الله عنه قد رسم علي بن أبي طالب حروفا يعلمها الناس لما فسدت ألسنتهم فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضنا به بعد لأبي الأسود الدؤلي ، فلما كان علي رضي الله عنه زياد وجه إليه أن اعمل شيئا تكون فيه إماما وينتفع به الناس؛ فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس، فدافع بذلك حتى مر يوما بكلإ البصرة وإذا قارئ يقرأ: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" وحتى سمع رجلا قال: سقطت عصاتي، فقال: لا يحل لي بعد هذا أن أترك الناس! فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير [ ص: 376 ] فليبتغ لي كاتبا حصيفا ذكيا يعقل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر من ثقيف; وقال في كتاب الوقف: حدثني أبي قال: حدثنا ابن الأنباري أبو عكرمة قال: قال العتبي : كتب إلى معاوية زياد يطلب عبيد الله ابنه، فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن، فرده إلى زياد وكتب إليه كتابا يلومه فيه ويقول: أمثل عبيد الله يضيع؟ فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال: يا أبا الأسود ! إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئا يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلا فقال له: اقعد في طريق أبي الأسود ، فإذا مر بك فاقرأ شيئا من القرآن وتعمد اللحن فيه، ففعل ذلك.
فلما مر به أبو الأسود رفع الرجل صوته يقرأ: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلي ثلاثين رجلا، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلا من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغا يخالف [ ص: 377 ] لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك. انتهى.
ويوم الحج المذكور هنا للجنس، أي: في جميع أيام الحج - قاله - كيوم صفين والجمل وبعاث يراد به الحين والزمان الذي كان فيه ذلك، ولذلك نادى سفيان الثوري بنفسه ومن ندبه لذلك في جميع تلك الأيام، وقال علي رضي الله عنه أبو حيان : الظاهر أنه يوم واحد فقال رضي الله عنه وجماعة: هو يوم عرفة، وروي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر رضي الله عنه وجماعة: هو يوم النحر، وقيل: أيام الحج كلها - قاله أبو موسى قال سفيان بن عيينة ابن عطية : والذي تظاهرت به الأحاديث أن رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عليا عرفة إثر خطبة رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع [ ص: 378 ] فتتبعهم بالأذان بها أيضا يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبي بكر رضي الله عنه من يعينه بها أبو بكر وغيره رضي الله عنهم ويتبعوا أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره; وبهذا يترجح قول كأبي هريرة سفيان - انتهى. وروى عن عبد الرزاق أنه يوم النحر، وقال في تفسيره أيضا: أخبرنا علي رضي الله عنه عن معمر قال: إنما سمي الحسن لأنه حج الحج الأكبر رضي الله عنه الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، ووافق أيضا ذلك عيد اليهود والنصارى. أبو بكر
ولما أعلم سبحانه بالبراءة عنها، سبب عنها مرغبا مرهبا قوله: التفاتا إلى الخطاب: فإن تبتم أي: عن الكفر والغدر فهو أي: ذلك الأمر العظيم وهو المتاب خير لكم أي: لأنكم تفوزون في الوفاء بالأمان في الدنيا، وفي الإسلام بالسلامة في الدارين.
ولما كانت التوبة محبوبة بالطبع لما لها من النفع قال: وإن توليتم أي: كلفتم أنفسكم خلاف ما يشتهى من التوبة موافقة للفطرة الأولى، وأصررتم على الكفر والغدر اتباعا للهوى المكتسب من خباثة الجبلة ورداءة الأخلاط التي قعدت بالروح عن أوجها الأول إلى الحضيض الأسفل فاعلموا أي: علما لا شبهة فيه أنكم غير معجزي الله [ ص: 379 ] أي: لأن له صفات الكمال من الجلال والجمال، والالتفات هنا مثله في: فسيحوا والإشارة به إلى ما ذكر في ذلك.
ولما واجههم بالتهديد أعرض عنهم وجه الخطاب تحقيرا لهم مخاطبا لأعلى خلقه مبشرا له في أسلوب التهكم بهم، فقال عاطفا على ما تقديره: فبشر الغادرين بالخذلان، أو فبشر التائبين بنعيم مقيم: وبشر الذين كفروا أي: أوقعوا هذا الوصف بعذاب أليم أي: في الدنيا والآخرة أو فيهما.