ثم أنـزل الله أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال سكينته أي: رحمته، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر بما يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابه الأقدس والغناء عن غيره.
ولما كان المقام للرسالة، وكان تأييد مدعيها من أمارات صدقه في دعوى أنه رسول، وأن مرسله قادر على ما يريد لا سيما إن كان تأييده على وجه خارق للعادة، عبر به دون وصف النبوة فقال: على رسوله أي: زيادة على ما كان به من السكينة التي لم يحز مثلها أحد، ثبت بها الثلاثين ألفا أو عشرين ألفا أو أربعة آلاف على اختلاف الروايات في عشرة أنفس أو مائة أو ثلاثمائة - على الاختلاف أيضا، لم يكن ثباتهم إلا به، ثم لم يزده ذلك إلا تقدما حتى أن كان عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه رضي الله عنهما ليكفان بغلته عن بعض التقدم، ولعل العطف ب: "ثم" إشارة إلى علو رتبة ذلك الثبات واستبعاد أن يقع مثله في مجاري العادات وعلى المؤمنين أي: أما من كان منهم ثابتا فزيادة على ما كان له من ذلك، وأما غيره فأعطي ما [ ص: 426 ] لم يكن في ذلك الوقت له، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه رضي الله بعدما فر الناس: ناد فيهم يا العباس عباس! فنادى وكان صيتا: يا عباد الله! يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب سورة البقرة! فكروا عنقا واحدا يقولون: لبيك لبيك! ويحتمل أن يكون ذكر الرسول عليه السلام لمجرد التبرك كما في ذكر الله في قوله: فأن لله خمسه وزيادة في تعظيم الامتنان به لأن النفوس إلى ما أعطى منه الرسول أميل والقلوب له أقبل لاعتقاد جلاله وعظمته وكماله وأنـزل أي: من السماء جنودا لم تروها أي: من الملائكة عليهم السلام وعذب أي: بالقتل والأسر والهزيمة والسبي والنهب الذين كفروا عبر بالفعل لأن فيهم من آمن بعد ذلك.
ولما كان ما عذب به من أوجد مطلق هذا الوصف عظيما، أتبعه بيان جزاء العريق في ذلك ترهيبا لمن آثر حب شيء مما مضى على حب الله فقال: وذلك أي: العذاب الذي منه ما عذب به هؤلاء وغيره جزاء الكافرين أي: الراسخين في وصف الكفر الذين آثروا حب من تقدم من الآباء وغيرهم على الله فثبتوا على تقليد الآباء في الباطل بعدما رأوا من الدلائل ما بهر الشمس ولم يدع شيئا من لبس، وأما الذين لم يكن كفرهم راسخا فكان ذلك صلاحا لهم لأنه قادهم إلى الإسلام، فقد تبين أن المنصور من نصره الله قليلا كان أو كثيرا، وأن القلة [ ص: 427 ] والكثرة والقوة والضعف بالنسبة إلى قدرته سواء، فلا تغتروا بما ألزمكم من النعم؛ فإنه قادر على نزعها، لا يستحق أحد عليه شيئا، ولا يقدر أحد على رد قضائه، وفي ذلك إعلام بأنه لا يرتد بعد إيمانه إلا من كان عريقا في الكفر، وفيه أبلغ تهديد؛ لأنه إذا عذب من أوجد الكفر وقتا ما فكيف بمن رسخ فيه!