ولما كان المراد التعميم أتى بها نكرة لتفيد ذلك، ويؤيد هذا ما نقل العلماء عن الرواة لفتوح البلاد منهم الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي، قال في كتابه: الاكتفاء في وقعة جلولاء من بلاد فارس: [ ص: 436 ] قالوا: قال بعضهم: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزي عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وإنما أخذوا من المجوس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس الجزية هجر وأخذها منهم لأنهم أهل كتاب في الأصل، قال في باب المجمل والمفسر من كتاب اختلاف الحديث: والمجوس أهل كتاب غير التوراة والإنجيل وقد نسوا كتابهم وبدلوه، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشافعي منهم; أخبرنا أخذ الجزية سفيان عن أبي سعد سعيد بن مرزبان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي: علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد فأخذ بلببه فقال: يا عدو الله! تطعن على وعلى أبي بكر وعلي عمر - وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج أمير المؤمنين - يعني عليا عليهما فقال: البدا! البدا! فجلسا في ظل القصر فقال علي: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع عليهم فدعا أهل مملكته فقال: تعلمون دينا [ ص: 437 ] خيرا من دين علي رضي الله عنه آدم وقد كان آدم ينكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم، فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم، وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنهما منهم الجزية. ولما أمر بقتالهم ووصفهم بما هو السبب الباعث على ذلك، عطف عليه بعض أقوالهم المبيحة لقتالهم الموجبة لنكالهم فقال: وعمر وقالت أي: قائلو أهل الكتاب لأنهم كفروا بما وصفناهم به وقالت اليهود منهم كذبا وبهتانا عزير تنوين عاصم له موضح لكونه مبتدأ، والباقون منعوه نظرا إلى عجمته مع العلمية وليس فيه تصغير، والخبر في القراءة قولهم: والكسائي ابن الله أي: الذي له العلو المطلق فليس كمثله شيء، وعزير هذا هو المسمى عندهم في سفر الأنبياء ملاخيا، ويسمى أيضا العازر وهو الأصل والعزير تعريبه، وأما الذي جمع لهم هذه التوراة التي بين أيديهم فقال السموأل بن يحيى المغربي الذي كان يهوديا فأسلم: إنه شخص آخر اسمه عزرا، وإنه ليس بنبي؛ ذكر ذلك في كتابه: غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود، وهو كتاب حسن جدا، وكانالسموأل هذا مع تمكنه من المعرفة بشريعة اليهود وأخبارهم متمكنا من علوم الهندسة وغيرها، وكان فصيحا بليغا [ ص: 438 ] وكان حسن الإسلام يضرب المثل بعقله، ورأيت اليهود في غاية النكاية منه، وأراني بعضهم رسالة إليه لبعض أحبارهم يسفه فيها رأيه في إسلامه ويشبه عليه بأشياء خطابية وشعرية، فأجابه بجواب بديع افتتحه بقوله تعالى:
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ثم رد كلامه أحسن رد ثم قال له ما حاصله: دع عنك مثل هذه الخرافات، وأجب عن الأمور التي ألزمتكم بها في كتاب غاية المقصود، فما أحار جوابا، ثم القائل لهذا القول منهم روى عن رضي الله عنهما أنهم أربعة، وقيل: قائله واحد وأسند إلى الكل كما يقال: فلان يركب الخيول وقد لا يكون له إلا فرس واحد، وهو كقوله تعالى: ابن عباس الذين قال لهم الناس وقيل: كان فاشيا فيهم فلما عابهم الله به تركوه وهم الآن ينكرونه، والله تعالى أصدق حديثا وقالت النصارى أي: منهم إفكا وعدوانا المسيح وأخبروا عنه بقولهم: ابن الله أي: مع أن له الغنى المطلق والكمال الأعظم، والمسيح هذا هو ابن مريم بنت عمران ; ثم استأنف قوله: مترجما قولي فريقيهم: ذلك أي: القول البعيد من العقول المكذب للنقول قولهم بأفواههم أي: حقيقة لم يحتشموا من قوله: مع [ ص: 439 ] سخافته، وهو مع ذلك قول لا تجاوز حقيقته الأفواه إلى العقول لأنه لا يتصوره عاقل، بل هو قول مهمل كأصوات الحيوانات العجم لا يتحقق له المعنى; قال: ومعناه الحال أن قائله لا عقل له، ليس له معنى وراء ذلك، ولبعده عن أن يكون مقصودا لعاقل عبر فيه بالأفواه التي هي أبعد من الألسنة إلى القلوب.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم إذا كان هذا حالهم قالوه؟ قال ما حاصله: إنهم قوم مطبوعون على التشبه بمن يفعل المفاسد كما أنهم تشبهوا بعبدة الأوثان، فعبدوها غير مرة والأنبياء بين أظهرهم يدعونهم إلى الله وكتابهم ينادي بمثل ذلك وينذرهم أشد الإنذار يضاهئون أي: حال كونهم يشابهون بقولهم هذا قول الذين كفروا أي: بمثله وهم العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله، كما أنهم لما رأوا الذين يعكفون على أصنام لهم قالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة
ولما كان لا يمتنع أن يكون الذين شابهوهم إنما كانوا بعدهم أو في زمانهم من قبل أن يبين فساد قولهم، نفى ذلك بقوله: مشيرا بحرف الجر إلى أن كفرهم لم يستغرق زمن القبل: من قبل أي: من قبل أن يحدث منهم هذا القول، وهذا دليل على أن العرب غيروا دين إسماعيل عليه السلام، اجترؤوا على مثل هذا القول قبل إيقاع بختنصر باليهود [ ص: 440 ] أو في حدوده، وليس ذلك ببعيد مع طول الزمان وإغواء الشيطان، فقد كان بين زمان إبراهيم وعزير عليهما السلام نحو ألف وخمسمائة سنة - هذا على ما ذكره بعض علماء أهل الكتاب عن كتبهم وأيده ما ذكره المسعودي من مروج الذهب في تاريخ ملوك بابل من نمرود إلى بختنصر: وذكر بعض المؤرخين أن بين الزمنين زيادة على ألفي سنة على أنهم قد نقلوا ما هو صريح في كفر العرب في ذلك الزمان فرووا عن هشام بن الكلبي أنه قال: كان بدء نزول العرب إلى أرض العراق أن الله عز وجل أوحى إلى برخيا من ولد يهودا أن ائت بختنصر فمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم وأعلمه بكفرهم بي واتخاذهم الآلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي، وعن غير ابن الكلبي أنه نظم ما بين أبلة والإيلة خيلا ورجالا ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح قدروا عليه، وأوصى الله برخيا وإرميا بمعد بن عدنان الذي من ولده محمد المختوم به النبوة، وكان ذكر مشابهتهم لأهل الشرك تحقيرا لشأنهم تجرئة على الإقدام عليهم إذ جعلهم مشابهين لمن دربوا قتالهم وضربوا عليهم فأذلوهم بعد أن كانوا في عزة لا يخشون زوالها، وعزائم شديدة لا يخافون [ ص: 441 ] انحلالها، كل ذلك بطاعة الله في قتالهم وطلب مرضاته بنزالهم لأنه عليهم، ومن كان عليه لم يفلح، وإلى مثل ذلك إشارة بقوله: في حق هؤلاء: قاتلهم الله أي: أهلكهم الملك الأعظم؛ لأن من قاتله لم ينج منه، وقيل: لعنهم; روي عن قال: وكل شيء في القرآن مثله فهو لعن. ابن عباس أنى يؤفكون أي: كيف ومن أين يصرفون عن الحق مع قيام الأدلة القاطعة عليه،