ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم - وهو نبيه صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إليه ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم - بحياطة القادر له - فيما مضى من الهجر التي ذكرها، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما عدوه واستدفاع ما أوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله بقوله: فما متاع الحياة الدنيا الآية. وقوله: إلا تنفروا - الآية. فقال: إلا تنصروه أي: أنتم طاعة لأمر الله، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم إما على طريق الاستخدام من سبيل الله؛ لأنه الموضح له الداعي إليه، أو لتقدم اسمه الشريف إضمارا في قوله: إذا قيل لكم أي: من رسول الله صلى عليه وسلم استنصارا منه لكم، وإظهارا في قوله تعالى: هو الذي أرسل رسوله الآية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق التي بعدها ولا تنفك عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره، وذكر الغاز والصاحب أوضح الأمر. وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذ الرؤساء أربابا اشتدت [ ص: 473 ] الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة، وبأن مأكولهم أموال غيرهم باطلا، وبأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبيل التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر; ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب: هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء.
ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثهم على التقوى، وكان بعضهم قد توانى في ذلك، اشتد اقتضاء الحال للمعاتبة على التثاقل عن النفر، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي أرسله ليظهره على الدين كله فقال جوابا للشرط: فقد أي: إن لم يتجدد منكم له نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد نصره الله أي: الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة، ولا شك عند عاقل أن المستقبل عنده كالماضي إذ أي: حين أخرجه الذين وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال: كفروا أي: من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا في قتله أو إخراجه أو إثباته، فكان ذلك سببا لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه ثاني اثنين أي: أحدهما رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله أبو بكر إذ هما في الغار [ ص: 474 ] أي: غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لما كمنا به ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب، وذلك قبل أن يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم إذ يقول أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أي: رضي الله عنه وثوقا بربه غير منزعج من شيء أبي بكر الصديق لا تحزن والحزن: هم غليظ بتوجع يرق له القلب، حزنه وأحزنه بمعنى; وقال في القاموس: أو أحزنه: جعله حزينا، وحزنه: جعل فيه حزنا; ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبرا بالاسم الأعظم مستحضرا لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب إن الله أي: الذي له الأمر كله معنا أي: بالعون والنصرة، وهو كاف لكل مهم، قوي على دفع ملم، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادرا على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أجر، وكما أنه كان موجودا في ذلك الزمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم، وفي هذه الآية من التنويه بمقدار وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو [ ص: 475 ] منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذي أعطاه إياه; قال الصديق أبو حيان وغيره: قال العلماء: رضي الله عنه كفر لإنكاره كلام الله، أبي بكر وليس ذلك لسائر الصحابة. من أنكر صحبة
ولما كان رضي الله عنه نافذ البصيرة في المعارف الإلهية، راسخ القدم في ذلك المقام لذلك لم يتلعثم من أول الأمر في عناد جميع العباد بخلع الأنداد، ثم تدرب فيه مترقيا لثلاث عشرة سنة، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من أن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين، ولم يكن جنبا ولا سوء ظن، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقا لحصول السكينة له عند سماع اسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكر بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم، ويتصاغر في جنبها كل كبير، ولذلك ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم، وأشرك في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات وما بعده علة له. وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من إحسانه تعالى إلى الصديق موسى عليه السلام بإظهار تلك الآيات على يده حتى استنقذهم بها مما كانوا فيه، ومنع [ ص: 476 ] موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه، فلما رأوا جموعه مقبلة كان حالهم مقتضيا للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات: هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم أم لا؟ فلذلك قد إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سبيل الخصوص به، وعبر عن الإله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكر به فقال: كلا إن معي ربي فكأن قيل: ماذا يفعل والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فقال سيهدين أي: إلى ما أفعل، يعرف ذلك من كان متضلعا بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف عن التوراة، مستحضرا لأن رضي الله عنه كان في صعودهما إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي صلى الله عليه وسلم ليفتديه بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قتلت أنا فأنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، وأنه كان عارفا بأن الله تعالى تكفل بإظهار الدين على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر، وكان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الناس، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله: الصديق فأنـزل الله أي: الملك الأعظم سكينته [ ص: 477 ] أي: السكون المبالغ فيه المؤثر للنسك عليه أي: - كما قاله الصديق رضي الله عنهما - لأن السكينة لم تفارق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطف على ابن عباس نصره الله قوله: وأيده أي: النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف الضمائر هنا لا يضر؛ لأنه غير مشتبه بجنود لم تروها أي: من الملائكة الكرام وجعل كلمة أي: دعوة الذين كفروا أي: أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره السفلى فخيب سعيهم ورد كيدهم، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلا في وقت من الأوقات فقال: وكلمة الله أي: الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء، ونصبها يعقوب عطفا على ما سبق هي العليا أي: وحدها، لا يكون إلا ما يشاءه دائما أبدا، فالله قادر على ذلك والله أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلما عزيز أي: مطلقا يغلب كل شيء من ذلك وغيره حكيم لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها.