ولما قيد الإذن لهم بالطيب من الرزق افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب فبين صريحا ما حرم عليهم مما كان المشركون يستحلونه ويحرمون غيره وأفهم حل ما عداه وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا فقال : إنما حرم عليكم . وقال : ولما كان إدراك المؤمنين لمقتضى الخطاب فوق إدراك الناس خاطبهم تعالى بذكر ما حرم عليهم فناظر ذلك ما نهى عنه الناس من اتباع خطوات [ ص: 341 ] الشيطان فقال : الحرالي إنما حرم وأجرى إضماره على الاسم العظيم الأول إعلاما بأن الذي أذن لهم إنما حرم عليهم ما لا يصلح لهم بكل وجه لشدة مضرته عليهم في إحاطة ذواتهم ظاهرها وباطنها ، لما ذكر أن المحرم إما لحرمته علوا كالبلد الحرام وتحريم الأمر ، أو لحرمته دناءة كتحريم هذه المحرمات ، ففي كلمة "إنما" نفي لمتوهمات ما يلحقه التحريم بما دون المذكور هنا كأن قائلا يقول : حرم كذا وحرم كذا من نحو ما حرمته الكتب الماضية أو حرمته الأهواء المختلفة أو حرمه نظر علمي كالذي حرمه إسرائيل على نفسه ، فكان الإفهام لرد تلك المحرمات كلها . انتهى . فالمعنى والله سبحانه وتعالى أعلم أنكم حرمتم الوصيلة والسائبة وغيرهما مما أحله الله وأحللتم الميتة والدم وغيرهما حرمه الله سبحانه وتعالى ولم يحرم الله عليكم من السائبة وما معها مما حرمتموه ولا غيره مما استحللتموه إلا ما ذكرته هذه الآية ; وإذا راجعت ما في قوله سبحانه وتعالى في الأنعام فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقوله قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ ص: 342 ] من كتابي هذا عرفت المراد من هذه الآية . وقال الميتة أي : التي سماها بذلك أهل العرف ، وهي . قال ما فارقه الروح من غير ذكاة شرعية وهو مما يذكى : وهي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة ، وهي أشد مفسد للجسم لفساد تركيبها بالموت وذهاب تلذذ أجزائها وعتقها وذهاب روح الحياة والطهارة منها . الحرالي والدم أي : الجاري لأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء ، فهو ميتة من خاص حياته مرتكس في جوهره إلا من طيب الله كليته كما في محمد صلى الله عليه وسلم وفيمن نزع عنه خبث الظاهر والباطن طبعا ونفسا . ولحم الخنـزير لأذاه للنفس كما حرم ما قبله لمضرتهما في الجسم ، لأن من حكمة الله في خلقه أن من اغتذى [ ص: 343 ] جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الشيء "الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر ، والسكينة في أهل الغنم" فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق ; واللحم ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلد ، وعرف غلبة استعماله على رطبة الأحمر ، وهو هنا على أصله في اللغة يجمع اللحم الأحمر والشحم والأعصاب والعروق إلى حد الجلد وما اشتمل عليه ما بين الطرفين من أجزاء الرطوبات ، وإذا الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب [ ص: 344 ] ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم . حرم لحمه
ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس حرم ما يرين على القلب فقال : وما أهل والإهلال رفع الصوت لرؤية أمر مستعظم به أي : رفع رافع الصوت بسببه ذابحا لغير الله أي : الذي لا كفؤ له بوجه . قال : لأن ما لم يذكر عليه اسم الله أخذ من يد من ذكر عليه اسمه وليس ذلك خالقه ومالكه ، إنما خالقه ومالكه الله الذي جعل ذكر اسمه عليه إذنا في الانتفاع به وذكر على إزهاق الروح من هي من نفخته لا من لا يجد للدعوى فيها [ ص: 345 ] سبيلا من الخلق . وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم ، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر الحرالي فكان المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه بل الذي علم أن غير اسم الله قد أعلن به عليه ، وفي تقدم إضمار المحرم في قوله " به " تأكيد لمعناه لأنهم يقدمون ما هم به أهم وهم ببيانه أعنى ، قال صلى الله عليه وسلم : "قالوا : يا رسول الله ! إن ناسا يأتوننا بلحام لا ندري أسموا الله عليها أم لا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سموا الله أنتم وكلوا" ، فلما كانت هذه الآية جامعة أي : التحريم أظهر فيها تقديم العناية بالمحرم وهي في الإبلاغ أنهى معنى من الذي أخر فيها هذا الضمير . "ابدؤوا بما بدأ الله به"
ولما كان رفع حكم هذا التحريم عن المضطر ، ولما كان شأن الاضطرار أن يشمل جمعا من الخلق أنبأهم تعالى بأن هذا الذي رفع عنهم من التحريم لا يبرأ [ ص: 346 ] من كلية الأحكام بل يبقى مع هذه الرخصة موقع الأحكام في البغي والعدوان فقال : هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج ولا جناح فمن اضطر [أي : أحوجه محوج وألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت ] إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف فأكل من شيء منه حال كونه غير باغ أي : قاصد فسادا بمكيدة يكيد بها لضعفه آخذا من تلك الميتة هو أقوى منه كأن يحيله على غيرها خداعا منه ليستأثر عليه بالأحسن منها ولا عاد على غيره بأن يكون أقوى منه فيدفعه عنها ، ولا مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة ; ويدخل في الآية أن من بغى على إمام أو قصد بضربه في الأرض فسادا أو عدا على أحد ظلما فحصل له بسبب ذلك مخمصة لا يحل له ما كان حراما لأن في ذلك إعانة له على معصيته ، فإن تاب استباح فلا إثم عليه لا من التحريم الأول ولا [ ص: 347 ] من الحكم الآخر ، ولو كان رفع الإثم دون هذين الاشتراطين لوقع بين المضطرين من البغي والتسلط ما مثله لا يحل لغير المضطرين ، فانتفى الإثم على صحة من الأمرين وارتفاع الحكمين ، ففي السعة يجتنب ما يضر وفي الضرورة يؤثر ضرورة الجسم لقوامه على حكم الكتاب في إقامته ; وفي إفهامه أن ، لأن الله سبحانه وتعالى إذا أباح شيئا أذهب ضره من اضطر لشيء مما حرم عليه فأكله لم تنله مضرة ففيه تنبيه لتغيير هذه الأعيان للمضطر عما كانت عليه حتى تكون رخصة في الظاهر وتطييبا في الباطن ، فكما رفع عنه حكمها الكتابي يتم فضله فيرفع عنه ضرها الطبيعي . "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها"
ثم علل هذا الحكم مرهبا مرغبا بقوله : إن الله فأتى بهذا الاسم المحيط إشارة إلى عموم هذا الحكم للمضطر والموسع ، وفي قوله : غفور إشعار بأنه لا يصل إلى حال الاضطرار إلى ما حرم [ ص: 348 ] عليه أحد إلا عن ذنب أصابه ، فلولا المغفرة لتممت عليه عقوبته ، لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجز ربه وإن كانوا من قبل أن ينـزل عليهم من قبله لمبلسين فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين ودون رتبة الإيمان فلم يحوجهم في ضرورتهم إلى ما حرم عليهم بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب مآكلهم في حال السعة من صيد البحر الذي "جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم [جيشا ] ففنيت أزوادهم فأقاموا أياما يتقوتون بيسير حتى تقوتوا بتمرة تمرة فأخرج الله لهم العنبر دابة من البحر" وفي قوله : "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رحيم [ ص: 349 ] إنباء بأن من اضطر فأصاب مما اضطر إليه شيئا لم يبغ فيه ولم يعد تناله من الله رحمة توسعه من أن يضطر بعدها إلى مثله فيغفر له الذنب السابق الذي أوجب الضرورة ويناله بالرحمة الموسعة التي ينال بها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله - انتهى ; وتصرفت فيه .