ولما كان الإنسان ميالا إلى الفوائد، مستشرقا إلى جميل العوائد، علل الإتيان بما يرغبه مبيحا من فضله ما يقصده من أمر المعاش فقال: ليشهدوا أي يحضروا حضورا تاما منافع لهم أي لا للمعبود، دينية ودنيوية، فإنه كما جعل سبحانه تلك المواطن ماحية للذنوب، جالبة للقلوب، جعلها جالبة للفوائد، جارية على أحسن العوائد، سالمة للفقر جابرة للكسر، ولما كانت المنافع لا تطيب وتثمر إلا بالتقوى كان الحامل على التقوى لذكر قال: ويذكروا اسم الله أي الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره، إعلاما [ ص: 39 ] بأنه المقصود الذي يتبعه جميع المقاصد لأنه ما جمعهم على ما فيه من تلك الأرض الغراء والأماكن الغبراء إلا هو بقدرته الكاملة، وقوته الشاملة، لا اسم شيء من الأصنام كما كانت الجاهلية تفعل في أيام معلومات أي علم أنها أول عشر في ذي الحجة الذي يوافق اسمه مسماه، لا ما سموه به ومسماه غيره على ما حكم به النسيء، وفي هذا إشارة إلى أن المراد به الإكثار إذ مطلق الذكر مندوب إليه في كل وقت، وفي التعبير بالعلم إشارة إلى وجوب استفراغ الجهد بعد القطع بأن الشهر ذو الحجة اسما ومسمى في تحرير أوله، وأما أيام التشريق فإنها لما كانت مبنية على العلم بأمر الشهر الذي أمر به هنا، فأنتج العلم بيوم العيد، لم يحتج في أمرها إلى غير العد فلذا عبر عنها به دون العلم.
ولما كانت النعم أجل أموالهم، قال تعالى مرغبا لهم ومرهبا: على أي مبركين بذكره وحامدين على ما رزقهم ولو شاء محقه من بهيمة ولما كانت البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، بينها بقوله: الأنعام من الإبل والبقر والغنم بالتكبير عند رؤيته، ثم عند ذبحه، وفيه حث على التقرب بالضحايا، والهدايا، ولذلك التفت إلى الإقبال عليهم، وتركيب "لهم" يدور على الاستعجام والخفاء والانغلاق وعدم التمييز، وتركيب "نعم" على الرفاهية والخفض والدعة.
[ ص: 40 ] ولما ذكر سبحانه العبادة فخاطب بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، تنبيها على أنها لعظم المعبود لا يقوم بها على وجهها إلا الخلص، أقبل على العابدين كلهم بالإذن في ما يسرهم من منحة التمتيع، تنبيها على النعمة، حثا على الشكر، فقال مبينا عما اندرج في ذلك من الذبح: فكلوا منها أي إن شئتم إذا تطوعتم بها ولا تمتنعوا كأهل الجاهلية، فالأكل من المتطوع به لا يخرجه عن كونه قربانا في هذه الحنيفية السمحة منة على أهلها، تشريفا لنبيها صلى الله عليه وسلم، والأكل من الواجب لا يجوز لمن وجب عليه، لأنه إذا أكل منه لم يكن مخرجا لما وجب عليه بكماله وأطعموا البائس أي الذي اشتدت حاجته، من بئس كسمع إذا ساءت حاله وافتقر، وبين أنه من ذلك، لا من بؤس - ككرم الذي معناه: اشتد في الحرب، بقوله: الفقير