ولما كان هذا مقتضيا للاهتمام بشأنهم، أتبعه قوله، تحقيرا لأمرهم مخاطبا للخلص وخصوصا النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وأمها وعائشة وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم: لا تحسبوه أي الإفك شرا لكم أيها المؤمنون بأن يصدقه أحد أو تنشأ عنه فتنة بل هو خير لكم بثبوت البراءة الموجبة للفخر الذي لا يلحق، بتلاوتها على مر الدهور بألسنة من لا يحصى من العباد، في أكثر البلاد، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والصديقين بذلك، مع الثواب الجزيل، بالصبر على مرارة هذا القيل، وثبوت إعجاز القرآن بعد إعجازه بالبلاغة بصدقه في صيانة من أثنى عليها في ذلك الدهر الطويل، الذي عاشته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن ماتت رضي الله تعالى عنها أتقى الناس ديانة، وأظهرهم صيانة، وأنقاهم عرضا، وأطهرهم نفسا، فهو لسان صدق في الدنيا، ورفعة منازل في الآخرة إلى غير [ ص: 223 ] ذلك من الحكم، التي رتبها بارئ النسم، من الفوائد الدينية والأحكام والآداب.
ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له، علل ذلك بقوله: لكل امرئ منهم أي الآفكين ما أي جزاء ما اكتسب بخوضه فيه من الإثم الموجب لشقائه، وصيغة الافتعال من "كسب" تستعمل في الذنب إشارة إلى أن الإثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قوي صدقه العمل بما فيه من الجد والنشاط، وتجرد في الخير إشارة إلى أن الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته والذي تولى كبره أي معظمه بإشاعته والمجاهرة به منهم له بما يخصه لإمعانه في الأذى عذاب عظيم أي أعظم من عذاب الباقين، لأنهم لم يقولوا شيئا إلا كان عليه مثل وزره من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا، وقصة الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرها شهيرة جدا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق بعد ما أنزلت آية الحجاب، وكانت معه الصديقة بنت الصديق زوجته رضي الله تعالى عنها تحمل هودج لها، فافتقدت عقدا لها ليلة فرجعت إلى الموضع الذي تخلت [ ص: 224 ] فيه فالتمسته، فرحل النبي صلى الله عليه وسلم وحمل جمالوها هودجها وهم يظنونها فيه، فلما رجعت فلم تجد أحدا اضطجعت مكان هودجها رجاء أن يعلموا بها فيرجعوا، وكان أم المؤمنين عائشة صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني رضي الله عنه قد عرس من وراء الجيش، فأصبح في مكانهم، فلما رآها وكان يراها قبل الحجاب استرجع وأناخ راحلته فوطئ على يدها، ولم يتكلم بكلمة غير استرجاعه، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها، ثم أقبل بها حتى لحق بالجيش وهم نزول في نصف النهار، فتكلم أهل الإفك فيهما رضي الله عنهما، وكان من سمي منهم عبد الله بن أبي المنافق ، وزيد بن رفاعة ، ، ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت ، قال : في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال تعالى. عروة بن الزبير
وهكذا ذكروا منهم وأنا والله لا أظن به أصلا وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطئ الثقة لأسباب لا تحصى، كما يعرف ذلك من مارس نقد الأخبار، وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي صلى الله عليه وسلم والمدافعة عنه والذم لأعدائه وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حسان جبريل عليه السلام معه، فأقسم بالله أن الذي أيده بجبريل ما كان [ ص: 225 ] ليكله إلى نفسه في مثل هذه الواقعة، وقد سبقني إلى الذب عنه الحافظ عماد الدين بن كثير الدمشقي رحمه الله وكيف لا ينافح عنه وهو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وهو القائل يمدح رضي الله عنها ويكذب من نقل عنه ذلك: عائشة
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت عني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول
واستمر أهل الإفك في هذا أكثر من شهر، والله تعالى عالم بما يقولون، وأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه، وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات، ولآخرين الهلاك، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم وهم خير الناس، والله سبحانه وتعالى يملي للآفكين ويمهلهم، وكأن الحال لعمري كما قال والصديق في قصيدة: أبو تمام الطائي
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر