ولما وصف القرآن من الجمع والفرقان ، بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران ، وكان حاصل حال الكفرة أنهم يتلقون كفرهم الذي هو في غاية [السفه إما عن الشياطين الذين هم في غاية الشر ، وإما عن آبائهم الذين هم في غاية] الجهل ، وصف النبي صلى الله عليه وسلم بضد حالهم ، فذكر جلالة المنزل عليه والمنزل ليكون أدعى إلى قبوله ، فقال عاطفا على إن الذين لا يؤمنون بالآخرة وإنك أي : وأنت أشرف الخلق وأعلمهم وأحلمهم وأحكمهم لتلقى القرآن أي : تجعل متلقيا له من الملك ، وحذف هنا الواسطة وبناه للمفعول إعلاء له.
ولما كانت الأمور التي من عند الله تارة تكون على مقتضى الحكمة فتسند إلى أسبابها ، وأخرى خارقة للعادة فتنسب إليه سبحانه ، والخارقة [تارة] تكون في أول رتب الغرابة فيعبر عنها بعند ، تارة تكون في أعلاها فيعبر عنها بلدن ، فقال : نبه سبحانه على أن هذا القرآن في الذروة من الغرابة في أنواع الخوارق من لدن
ولما مضى في آخر الشعراء ما تقدم من الحكم الجمة في تنزيله بهذا اللسان وعلى قلب سيد ولد عدنان ، بواسطة الروح الأمين ، مباينا لأحوال الشياطين ، إلى غير ذلك مما مضى إلى أن ختمت بتهديد الظالمين ، [ ص: 129 ] وكان الظالم إلى الحكمة أحوج منه إلى [مطلق] العلم ، وقدم في هذه أنه هدى ، وكان الهادي لا يقتدى به ولا يوثق بهدايته إلا إن كان في علمه حكيما ، اقتضى السياق تقديم وصف الحكمة ، واقتضى الحال التنكير لمزيد التعظيم فقال : حكيم أي : بالغ الحكمة ، فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان عليم أي : عظيم العلم واسعه تامه شامله ، فهو بعيد جدا عما ادعوه فيه من أنه كلام الخلق الذي لا علم لهم ولا حكمة إلا ما آتاهم الله ، ومصداق ذلك عجز جميع الخلق عن الإتيان بشيء من مثله ، وإدراك شيء من مغازيه حق إدراكه.
ولما وصفه بتمام الحكمة وشمول العلم ، دل على كل من الوصفين ، وعلى إبانه القرآن وما له من العظمة التي أشار إليها أول السورة بما يأتي في السورة من القصص وغيرها ، واقتصر في هذه السورة على هذه القصص لما بينها من عظيم التناسب [المناسب] لمقصود السورة ، فابتدئ بقصة أطبق فيها الأباعد على الكفران فأهلكوا ، والأقارب على الإيمان فأنجوا ، وثنى بقصة أجمع فيها الأباعد على الإيمان ، لم يتخلف منهم إنسان ، وثلث بأخرى حصل بين الأقارب فيها الفرقان ، باقتسام الكفر والإيمان ، وختم بقصة تمالأ الأباعد فيها على العصيان ، وأصروا على الكفران ، [ ص: 130 ] فابتلعتهم الأرض ثم غطوا بالماء كما بلغ الأولين الماء فكان فيه التواء.