ولما قدم سبحانه أن ، وهو الذي أشار أهل العلم إلى أن له ثواب الله ، وكان ذلك للآخرة [ ص: 371 ] سببا ومسببا ، ومر فيما لابد منه حتى ذكر قصة المفلح من تاب وآمن وعمل صالحا قارون المعرفة - ولا بد - بأن ، وأمر فيها بأن يحسن الابتغاء في أمر الدنيا ، وختم بأن هذا الفلاح مسلوب عن الكافرين ، فكان موضع استحضار الآخرة ، مع أنه قدم قريبا من ذكرها وذكر موافقتها ما ملأ به الأسماع ، فصيرها حاضرة لكل ذي فهم ، معظمة عند كل ذي علم ، أشار إليها سبحانه لكلا الأمرين : الحضور والعظم ، فقال : هذه الدار للزوال ، لا يغني فيها رجال ولا مال ، وأن الآخرة للدوام تلك أي : الأمر المنظور بكل عين ، الحاضر في كل قلب ، العظيم الشأن ، [البعيد] الصيت ، العلي المرتبة ، الذي سمعت أخباره ، وطنت على الآذان أوصافه وآثاره الدار الآخرة أي : التي دلائلها أكثر من أن تحصر ، وأوضح من أن تبين وتذكر ، من أعظمها تعبير كل أحد عن حياته بالدنيا والتي أمر قارون بابتغائها فأبى إلا علوا وفسادا نجعلها بعظمتنا للذين يعملون ضد عمله.
ولما كان ، قال : المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح لا يريدون ولم يقل يتعاطون مثلا ، [ ص: 372 ] تعظيما لضرر الفساد بالتنفير من كل ما كان منه تسبب ، إعلاما بأن النفوس ميالة إليه نزاعة له فمهما رتعت قريبا منه اقتحمته لا محالة علوا أي : شيئا من العلو في الأرض فإنه أعظم جار إلى الفساد ، وإذا أرادوا شيئا من ذلك فيما يظهر لك عند أمرهم بمعروف أو نهيهم عن منكر ، كان مقصودهم به علو كلمة الله للإمامة في الدين لا علوهم ولا فسادا بعمل ما يكره الله ، بل يكونون على ضد ما كان فيه فرعون وهامان وقارون ، من التواضع مع الإمامة لأجل حمل الدين عنهم ليكون لهم مثل أجر من اهتدى بهم ، لا لحظ دنيوي ، وعلامة العلو لأجل الإمامة لا الفساد ألا يتخذوا عباد الله خولا ، ولا مال الله دولا ، والضابط العمل بما يرضي الله والتعظيم لأمر الله والعزوف عن الدنيا.
ولما كان هذا شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى ، أخبر سبحانه أنه دائما يجعل ظفرهم آخرا ، فقال معبرا بالاسمية دلالة على الثبات : والعاقبة أي : الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة ، هكذا الأصل ، ولكنه أظهر تعميما وإعلاما بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى : للمتقين أي : دائما في كلا الدارين ، لا عليهم ، فمن اللام يعرف أنها محمودة ، وهذه الآية يعرف [ ص: 373 ] أهل الآخرة من أهل الدنيا ، فمن كان زاهدا في الأولى مجتهدا في الصلاح ، وكان ممتحنا في أول أحواله مظفرا في ماله ، فهو من أبناء الآخرة ، وإلا فهو للدنيا.