ولما تحررت الأدلة، وانتصبت الأعلام، واتضحت الخفايا، وصرحت الإشارات، وأفصحت ألسن العبارات، أقبل على خلاصة الخلق، إيذانا بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، فقال مسببا عن ذلك ممثلا لإقباله واستقامته وثباته: فأقم وجهك أي قصدك كله للدين أي نصبا بحيث تغيب عما سواه، فلا تلتفت عنه أصلا فلا تنفك عن المراقبة، فإن من اهتم بشيء سدد إليه نظره، وقوم له وجهه.
ثم عرض بجلافة أهل الضلال وغشاوتهم، وكثافتهم وغباوتهم، وجمودهم وقساوتهم، بقوله: حنيفا أي حال كونك ميالا مع الدليل هينا لينا نافذ الصبر نير البصيرة ساري الفكر سريع الانتقال طائر الخاطر، [ ص: 84 ] ثم بين أن هذا الأمر في طبع كل أحد وإن كانوا فيه متفاوتين كما تراهم إذا كانوا صغارا أسهل شيء انقيادا، ولكنه لما يكشف لهم الحال في كثير من الأشياء عن أن انقيادهم كان خطأ يصيرون يدربون أنفسهم على المخالفة دائما حتى تصير لبعضهم طبعا تجريبيا فيصير أقسى شيء وأجمده بعد أن كان أسهل شيء وأطوعه، وأكثر ما يكون هذا من قرناء السوء الذين يقولون ما لا يفعلون، ولهذا نهى أن يوعد الطفل بما لا حقيقة له: روى أحمد من طريق وابن أبي الدنيا عن الزهري رضي الله عنه - قال أبي هريرة المنذري: ولم يسمع منه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لصبي: تعال هاك! ثم لم يعطه فهي كذبة" ، ولأبي داود والبيهقي عن وابن أبي الدنيا مولى عبد الله بن عامر - قال ابن أبي الدنيا: زياد عبد الله بن عامر - أن أمه رضي الله عنها قالت له: تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرا، فقال: أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة" ، فقال مبينا لهم صحة دينه بأمر هو في [ ص: 85 ] أنفسهم، كما بين بطلان دينهم بأمر هو في أنفسهم: عن فطرت الله أي الزم فطرة الملك الذي لا راد لأمره، وهي الخلقة [الأولى] التي خلق عليها البشر ، والطبع الأول، [وقال في آخر كتاب العلم من الإحياء في بيان العقل في هذه الآية: أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله تعالى بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه، أعني أنها كالمتضمنة فيه لقرب استعداده للإدراك. انتهى]، ثم أكد ذلك بقوله: الغزالي التي فطر الناس أي كل من له أهلية التحرك عليها كلهم الأشقياء والسعداء، وهي سهولة الانقياد وكرم الخلق الذي هو في الصورة فطرة الإسلام، وتحقيق ذلك أن المشاهد من جميع الأطفال سلامة الطباع وسلاسة الانقياد [لظاهر الدليل]، ليس منهم في ذلك عسر كما في الكبار إن تفاوتوا في ذلك، فالمراد بالفطرة قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، كما تجد الأخرس يدرك [أمر] المعاد إدراكا بينا، وله فيه ملكة راسخة، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه حديث رضي الله عنه في الصحيحين وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما عند ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ ص: 86 ] أحمد بن منيع - وفي رواية "كل مولود يولد على الفطرة" للبخاري: فلذلك الجدع والوسم وشق الأذن ونحو ذلك مثال للأخلاق التي يتعلمها الطفل ممن يعامله بها من الغش والكذب وغير ذلك، وكذا حديث "ما من مولود إلا يولد على الفطرة - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها" عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في في صفة النار مسلم في فضائل القرآن والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي داود الطيالسي ولكن الشيطان لا يتمكن إلا بإقدار الله له في الحال بما يخلق في باطن المخذول من الباعث وفي الماضي من الطبائع التي هيأه بها لمثل ذلك كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه في الصحيح عن قال: "كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي" حنفاء كلهم "وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانه" رضي الله تعالى عنه: علي وآية سبحان " [ ص: 87 ] اعملوا فكل ميسر لما خلق له" كل يعمل على شاكلته وذلك أنه لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد كتب أهل الجنة وأهل النار، فلا يزاد فيهم ولا ينقص، قالوا: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فالكتاب حجة عليهم، لأن مبناه على أن فلانا من أهل النار لكونه لم يعمل كذا وكذا، فأرادوا أن يجعلوه حجة لهم فاعلموا أن في ذلك أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن هو العلة الموجبة في حكم الربوبية وهو العلم، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية وهو العمل، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم، عولموا بذلك ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية ليستكملوا بذلك صفة الإيمان، ونظير ذلك أمران: الرزق المقسوم مع الأمر بالمكسب، والأجل المحتوم مع المعالجة بالطب، فالمغيب فيهما علة موجبة والظاهر سبب مخيل، وقد اصطلح خواصهم وعوامهم على أن الظاهر منهما لا يترك بالباطن - ذكر معناه الرازي في اللوامع عن الخطابي.
ولما كانت سلامة الفطرة الأولى أمرا مستمرا، قال: لا تبديل [ ص: 88 ] ولعظم المقام كرر الاسم الأعظم فقال: لخلق الله أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له، لا يقدر أحد أن يجعل طفلا في أول أمره خبيث الفطرة لا ينقاد لما يقاد إليه ولا يستسلم لمن يربيه، وكلما كبر وطعن في السن رجع لما طبع عليه من كفر أو إيمان، أو طاعة أو عصيان، أو نكر أو عرفان، قليلا قليلا، حتى ينساق إلى ذلك عند البلوغ أو بعده، فإن مات قبل ذلك جوزي بما كان الله يعلمه منه أنه يعمله طبعيا ويموت عليه كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام صح الخبر بأنه طبع على الكفر، ولا يعذب بما يكون عارضا منه ويعلم أنه سيكون لو كان كأبوي الغلام لما وقع التصريح به من أنه لو عاش لأرهقهما طغيانا وكفرا، فقد علم منهما الكفر حينئذ فلم يؤاخذا به لأنه عارض لا طبعي، فالعبرة بالموت، ومن طبع على شيء لم يمت على غيره، فحقق هذا تعلم أنه لا تنافي بين شيء من النصوص لا من الكتاب ولا من السنة - والله الهادي.
ولما كان الميل مع الدليل كيفما مال أمرا لا يكتنه قدره ولا ينال إلا بتوفيق من الله، أشار إلى عظمته بقوله: ذلك أي الأمر العظيم وهو الاهتزاز للدليل واتباع ما يشير إليه ويحث عليه [ ص: 89 ] الدين القيم الذي لا عوج فيه ولكن أكثر الناس قد تدربوا في اتباع الأهوية لما تقدم من الشبه فصاروا بحيث لا يعلمون أي لا علم لهم أصلا حتى يميزوا الحق من الباطل لما غلب عليهم من الجفاء.