ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظيمة، وإلباسهم هذه النعمة الجسيمة، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم، أعرض عنهم [ ص: 207 ] وجه الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذانا باستحقاق شديد الغضب والعذاب، فقال معجبا عاطفا على ما تقديره: وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في [حال] رخائهم: وإذا غشيهم أي علاهم وهم فيها حتى صار كالمغطى لهم; لأنه منعهم من أن تمتد أبصارهم كما كانت موج أي هذا الجنس، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإيتانه شيئا في أثر شيء متتابعا يركب بعضه كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام كالظلل [أي] حتى كان كأطراف الجبال المظلمة لمن يكون إلى جانبها، [وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الاسم الأعظم فقال]: دعوا الله أي مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه مخلصين له الدين لا يدعون شيئا سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال، وقسرهم عليه من العظمة والكمال، واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر [فيه] لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب.
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم: إنهم [ ص: 208 ] أقروا بشيء هم له منكرون لأجل الخوف خوف السبة بذلك والعار حتى قال من قال: لولا أن يقال إني ما أسلمت إلا جزعا من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت. بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء، لما فيه مع ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع، فقال دالا بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم: فلما نجاهم أي خلصهم رافعا لهم، تنجية لهم عظيمة بالتدريج من تلك الأهوال إلى البر نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين، وتنكبوا سبيل المفسدين وانقسموا قسمين فمنهم أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر والنجاة منهم أنه كان منهم مقتصد متكلف للتوسط والميل للإقامة على الطريق المستقيم، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار، وهم قليل - بما دل عليه التصريح بالتبعيض، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياة في التصريح بذلك، [ ص: 209 ] وهو الأكثر، كما مضت الإشارة إليه [و] دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض، وما يقتصد إلا كل صبار شكور، إما حالا وإما مالا وما يجحد وخوف الجاحد بمظهر العظمة التي من شأنها الانتقام، فقال صارفا القول إليه: بآياتنا أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها إلا كل ختار أي شديد الغدر عظيمه لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف كفور أي عظيم الكفر لإحسان من هو متقلب في نعمه، في سره وعلنه، وحركاته وسكناته، ولا نعمة إلا وهي منه، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين، وعلم أنهما طباق ومقابلة لختام التي قبلها، وأن الآية من الاحتباك: دل ذكر المقتصد أولا على "ومنهم جاحد" ثانيا، وحصر الجحود في الكفور ثانيا على حصر الاقتصاد في الشكور أولا، قال قيل: نزلت في البغوي: حين هرب رضي الله عنه عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف - يعني: فقال الركاب على عادتهم: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئا - فقال عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه: لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى عكرمة محمد ولأضعن يدي في يده فسكنت الريح، فرجع رضي الله عنه إلى عكرمة مكة فأسلم وحسن إسلامه، وقال [ ص: 210 ] مقتصد في القول [مضمر للكفر، وقال مجاهد: مقتصد في القول] أي من الكفار، لأن بعضهم كان أشد قولا وأعلى في الافتراء من بعض. الكلبي: