ولما كانت هذه الآيات وما قبلها وما بعدها في إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم وبيان مناقبه، علل الأوامر فيها والنواهي وغيرها بقوله، مؤكدا لاقتضاء الحال ذلك أما ممن آذاه بالجلوس في غير حينه فواضح، وأما غيره فكان من حقهم أن لا يفارقوا المجلس حتى يعلموا من لا يعرف الأدب، فكان تهاونهم في ذلك فعل [من] لا يريد إظهار شرفه صلى الله عليه وسلم فهو تأديب وترهيب: إن الله [ ص: 406 ] أي وعلمكم محيط بأن له مجامع الكبر والعظمة والعز وملائكته أي وهم أهل النزاهة والقرب والعصمة.
ولما كان سبحانه قد قدم قوله: هو الذي يصلي عليكم وملائكته فأفرد كلا بخبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى المخاطبين حظا من ذلك فإنه رأس المؤمنين، أفرده هنا بهذه الصلاة التي جمع فيها الملائكة الكرام معه سبحانه وجعل الخبر عنهم خبرا واحدا ليكون أتم، فإن قولك: فلان وفلان ينصران فلانا، أضخم من قولك: فلان ينصره [و] فلان، فقال تعالى: يصلون على النبي أي يظهرون شرفه وما له من الوصلة بالملك الأعظم بما يوحيه الله إليه من عجائب الخلق والأمر من عالم الغيب والشهادة، وهو معنى قول رضي الله عنهما كما رواه ابن عباس "يبركون" . البخاري:
ولما كانت ثمرة المراد بهذا الإعلام التأسي، علم بآخر الكلام أن المعنى: ويسلمون [عليه لأن ذلك من تمام الوصلة التي يدور عليها معنى الصلاة] فأنتج ذلك قطعا [تفسير المراد بيصلون]: يا أيها الذين آمنوا [أي] ادعوا ذلك بألسنتهم صلوا عليه بعدم الغفلة عن المبادرة إلى إظهار [ ص: 407 ] شرفه في حين من الأحيان تصديقا لدعواكم، ولأن الكبير إذا فعل شيئا بادر كل محب له معتقد لعظمته إلى فعله وسلموا
ولما كان المراد بكل من الصلاة والسلام إظهار الشرف، وكان السلام أظهر معنى في ذلك، وكان تحيته عن اللقاء واجبا في التشهد بلا خلاف، ودالا على الإذعان لجميع أوامره الذي لا يحصل الإيمان إلا به، وهو من المسلم نفسه، وأما الصلاة فإنها يطلبها المصلي من الله، أكدهما به فقال: تسليما أي فأظهروا شرفه بكل ما تصل قدرتكم إليه من حسن متابعته وكثرة الثناء الحسن عليه والانقياد لأمره في كل ما يأمر به، ومنه الصلاة والسلام عليه بألسنتكم على [نحو] ما علمكم في التشهد وغيره مما ورد في الأحاديث عن أبي سعيد الخدري وغيرهما رضي الله عنهم بيان التقاء الصلاة والسلام في إظهار الشرف فإن الصلاة - كما [قال] في القاموس - الدعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله عز وجل وعبادة فيها ركوع وسجود. انتهى. والسلام هو التحية [والتحية] - كما قال وكعب بن عجرة البيضاوي في تفسير سورة النساء - في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك، ثم قيل لكل دعاء، فغلب في السلام، وفي القاموس: التحية: السلام والبقاء والملك، وحياك الله: [ ص: 408 ] أبقاك أو ملكك، وقال الإمام في جامعه: السلام اسم من أسماء الله، والسلام ههنا بمعنى السلامة، كما يقال الرضاع والرضاعة، واللذاذ واللذاذة، قالوا: ومعنى قول القائل لصاحبه: سلام عليك أي قد سلمت مني لا أنالك بيد ولا لسان، وقيل: معناه السلامة من الله عليكم، وقيل: هو الرحمة، وقيل: الأمان، والسلامة هي النجاة من الآفات. انتهى. فقد ظهر أن معنى الكل كما ترى ينظر إلى إظهار الشرف نظر الملزوم إلى اللازم، ولذلك فسر أبو عبد الله القزاز البيضاوي يصلون بقوله: يعتنون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه، وسلموا بقوله: قولوا السلام عليك، أو انقادوا لأوامره، فلما تآخيا في هذا المعنى، وكان هو المراد أكد بلفظ السلام تحصيلا لتمام المقصود بدلالته على الانقياد فهو مؤكد لصلوا بمعناه ولسلموا بلفظه، استعمالا للشيء في حقيقته ومجازه كما هو مذهب إمامنا رضي الله عنه، ومثل بآية النساء الشافعي
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وبقوله: أو لامستم النساء وغير ذلك، وقد بينت في سورة الرعد أن مادة "صلوا" بجميع تراكيبها تدور على الوصلة وهي لازمة لكل ما ذكر من تفسيرها، هذا ولك أن تجعله من [ ص: 409 ] الاحتباك فتقول: حذف التأكيد أولا لفعل الصلاة لما دل عليه من التأكيد بمصدر السلام، ويرجح إظهار مصدر السلام بما تقدم ذكره، وحذف متعلق السلام لدلالة متعلق الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وليصلح أن يكون عليه وأن يكون له، فيصلح أن يجعل التسليم بمعنى الإذعان - والله هو الموفق للصواب.