ولما أجمل سبحانه في أول هذه الآية أول أمرهم وأوسطه وآخره على الوجه الذي تقدم أنه منبه على أن الكفر ينبغي أن يكون من قبيل الممتنع لما عليه من باهر الأدلة شرع يفصله على وجه داع لهم إلى جنابه بالامتنان بأنواع الإحسان بأمر أعلى في إفادة المقصود مما قبله على عادة القرآن في الترقي من العالي إلى الأعلى فساق سبحانه ابتداء الخلق الذي هو من أعظم الأدلة على وحدانيته مساق الإنعام على عباده بما فيه من منافعهم ليكون داعيا إلى توحيده من وجهين : كونه دالا [ ص: 220 ] على عظمة مؤثرة وكمال قدرته ، وكونه إحسانا إلى عباده ولطفا بهم ، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فقال : هو ، قال : وهي كلمة مدلولها العلي غيب الإلهية القائم بكل شيء الذي لا يظهر لشيء ، فذاته أبدا غيب ، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم الله إلى تنزل اسم الملك ، فما بينهما من الأسماء المظهرة ، ثم قال : لما انتهى الخطاب بذكر إرجاعهم إلى الله وكان هذا خطابا خاصا مع المتمادي على كفره اتبع عند إعراضه وإدباره بهذا الحتم تهديدا رمى به بين أكتافهم وتسبيبا نيط بهم ومد لهم كالمرخى له في السبب الذي يراد [ ص: 221 ] أن يجذب به ، إما بأن يتداركه لطف فيرجع عليه طوعا ، أو يراد به قسرا عند انتهاء مدى إدباره ، وانتظم به ختم آية الدعوة بنحو من ابتدائها ، إلا أن هذه على نهاية الاقتطاع بين طرفيها وتلك على أظهر الاتساق ؛ فأبعدوا في هذه كل البعد بإسناد الأمر إلى اسم هو الذي هو غيب اسم الله وأسند إليه خلق ما خلق لهم في الأرض الذي هو أظهر شيء للحس . انتهى . الحرالي
الذي خلق لكم دينا ودنيا لطفا بكم ما في الأرض أي بعد أن سواهن سبعا ، قال : وقوله : الحرالي جميعا إعلام بأن حاجة الإنسان لا تقوم بشيء دون شيء وإنما تقوم بكلية ما في الأرض حتى لو بطل منها شيء تداعى سائرها . انتهى . والآية دليل على أن ، فلا يمنع شيء إلا بدليل . الأصل في الأشياء الإباحة
[ ص: 222 ] ولما كانت السماء أشرف من جهة العلو الذي لا يرام ، والجوهر البالغ في الإحكام ، والزينة البديعة النظام ، المبنية على المصالح الجسام ، وكثرة المنافع والأعلام ؛ عبر في أمرها بثم فقال : ثم استوى إلى السماء أي وشرف على ذلك جهة العلو بنفس الجهة والحسن والطهارة وكثرة المنافع ، ثم علق إرادته ومشيئته بتسويتها من غير أدنى عدول ونظر إلى غيرها ، وفخم أمرها بالإبهام ثم التفسير ، والإفراد الصالح لجهة العلو [ ص: 223 ] تنبيها على الشرف ، وللجنس الصالح للكثرة ، ولذلك أعاد الضمير جمعا ، فكان خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء ، ودحوها بعد خلق السماء ؛ على أن ثم للتعظيم لا للترتيب فلا إشكال ، وتقديم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة . وقال : أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى السماء الذي هو موضع التخوف لهم لنزول المخوفات منه عليهم فقيل لهم : هذا المحل الذي تخافون منه هو استوى إليه ، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة ؛ وبالجملة فالأحق بمجرى الكلم وقوعها نبأ عن الأول الحق ، ثم وقوعها نبأ عما في أمره وملكوته ، ثم وقوعها نبأ عما في ملكه وإشهاده ؛ فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت ، وما به ظهر الملك والملكوت من نبأ الله عن نفسه من الاستواء ونحوه في نبأ الله عن نفسه أحق [ ص: 224 ] حقيقة ، ثم النبأ به عن الروح مثلا واستوائها على الجسم ثم على الرأس مثلا واستوائه على الجثة فليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ ؛ وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم الحرالي فسواهن التسوية إعطاء أجزاء الشيء حظه لكمال صورة ذلك الشيء سبع سماوات أعطى لكل واحدة منهن حظها وأوحى في كل سماء أمرها انتهى . وخلق جميع ما فيها لكم ، فالآية من الاحتباك ؛ [ ص: 225 ] حذف أولا كون الأراضي سبعا لدلالة الثاني عليه ، وثانيا كون ما في السماء لنا لدلالة الأول عليه ؛ وهو فن عزيز نفيس وقد جمعت فيه كتابا حسنا ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته " الإدراك لفن الاحتباك " .
ولما كان الخلق على هذه الكيفية دالا بالبديهة على أتم قدرة لصانعه وكان العلم بأن مبنى ذلك على العلم محتاجا إلى تأمل اغتنى في مقطع الآية بقوله : وهو بكل شيء عليم أي فهو على كل شيء قدير .