ولما ذكر [ ص: 226 ] الحياة والموت المشاهدين تنبيها على القدرة على ما أتبعهما به من البعث ثم دل على ذلك أيضا بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع وختم ذلك بصفة العلم ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله تعالى عطفا على قوله : اعبدوا ربكم وبيانا لقوله : رب العالمين إذ من البدءة تعلم العودة لمن تدبر ، أو يكن عطفا على ما تقديره : اذكر هذا لهم ، وذلك أنه سبحانه لما خاطبهم بهذا الاستفهام الذي من معانيه الإنكار ذاكرا والضمير الذي " هو " أبطن منه ، وأتبعه بعض ما هم له منكرون أو به جاهلون ، وأشار بقوله : " لكم " مثبتة فيما هو ظاهر عندهم ومحذوفة مما هو خفي عنهم ، كما نبه عليه في الاحتباك إلى أنه لم يخلق هذا النوع البشري للفناء بل للبقاء بما أبان عن أنه إنما خلق جميع [ ص: 227 ] ما في هذه الأكوان لأجلهم ، فالبعض رزق لهم والبعض أسباب له ، والبعض أسجدهم لأبيهم وهم في صلبه ووكلهم بهم في حفظ أعمالهم وقسم أرزاقهم ونفخ أرواحهم وغير ذلك من تربيتهم وإصلاحهم ؛ لم يكونوا أهلا لفهم هذا الخطاب حق فهمه تلقيا عن الله لعلوه سبحانه وعلو هذا الخطاب بالأسماء الباطنة وما نظم بها من المعاني اللائقة بها علوا وغيبا فأعلم سبحانه بعطف " إذ " على غير ظاهر أنه معطوف على [ ص: 228 ] نحو : اذكر لهم أيها الرسول هذا ، لأنه لا يفهمه حق فهمه عنا سواك ، وهم إلى الفهم عنك أقرب " وإذ " أي واذكر ما اتفق إذ ، وحذف هذا المعطوف عليه لاحتمال المأمور بذكره الإنكار والسياق لإيراد الرفق والبشارة على لسانه صلى الله عليه وسلم استعطافا لهم إليه وتحبيبا فيه وفي حذفه أيضا والدلالة عليها بالعاطف حث على تدبر ما قبله تنبيها على جلالة مقداره ودقة أسراره ، ولما علمت الإشارة لكن لأهل البصارة أتبعها قصة الاسم الأعظم الذي هو أعلى الأسماء وأبطنها غيبا آدم عليه السلام دليلا ظاهرا ومثالا بينا لخلاصة ما أريد بهذه الجمل مما نبه عليه بالعاطف من أن النوع الآدمي هو المقصود بالذات من هذا الوجود ، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يترك بعد موته من غير إحياء يرد به إلى دار لا يكون في شيء من أمورها من أحد نوع من الخلل وتكون الحكمة فيها ظاهرة جدا لا خفاء بها أصلا . فيظهر الحمد أتم ظهور ؛ ولذلك ذكر تفضيل آدم عليه السلام [ ص: 229 ] بالعلم ، ثم بإسجاد الملائكة له ، ثم بإسكانه الجنة ، ثم بتلقي أسباب التوبة عند صدور الهفوة ؛ وقد روى في أواخر الدلائل ، البيهقي والحارث بن أبي أسامة ، في المستدرك عن والحاكم بشر بن شغاف عن رضي الله عنه قال : " إن أكرم خليقة الله على الله : عبد الله بن سلام أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ، قلت : رحمك الله ! فأين الملائكة ؟ فنظر إلي وضحك فقال : يا ابن أخي ! وهل تدري ما الملائكة ؟ إنما الملائكة خلق كخلق الأرض وخلق السماء وخلق السحاب وخلق الجبال وخلق الرياح وسائر الخلائق التي لا تعصي الله شيئا ، وإن أكرم الخلائق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " . وقال : إنه ليس بموقوف بل حكمه الرفع . وقال البيهقي : لما جعل الله تعالى نور العقل هاديا لآيات ما ظهر في الكون ، وكان من الخلق مهتد به ومعرض عنه بعث الله النبيين مبشرين لمن اهتدى بنور العقل بمقتضى الآيات المحسوسة وتلك هي الحنيفية والملة الإبراهيمية ، ومنذرين لمن أعرض عن ذلك وشغلته شهوات دنياه ، [ ص: 230 ] فترتب لذلك خطاب الكتاب بين ما يخاطب به الأعلين المهتدين وبين ما يخاطب به الأدنين المعرضين ، وكذلك تفاوت الخطاب بين ما يخاطب به الأئمة المهتدين والمؤتمون بهم ، فكان أعلى الخطاب ما يقبل على إمام الأئمة وسيد السادات وأحظى خلق الله عند الله الحرالي محمد صلى الله عليه وسلم . فكان أول الخطاب بـ الم ذلك الكتاب إقبالا عليه وإيتاء له من الذكر الأول كما قال عليه السلام : أوتيت البقرة وآل عمران من الذكر الأول وهو أول مكتوب حين كان الله ولا شيء معه ، وكتب في الذكر الأول كل شيء ، فخاطبه الله عز وجل بما في الذكر الأول وأنزله قرآنا ليكون آخر المنزل الخاتم هو أول الذكر السابق ليكون الآخر الأول في كتابه كما هو في ذاته ، فمن حيث كان الخطاب الأول من أعلى خطاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم انتظم به ما هو أدنى خطاب من آيات الدعوة تنبيها لمن أعرض عن الاستضاءة بنور العقل لما بين الطرفين من [ ص: 231 ] تناسب التقابل ؛ ثم عاد وجه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بما هو إعلام بغائب الماضي عن كائن الوقت من أمر ابتداء مفاوضة الحق ملائكته في خلق آدم ليكون ذلك ترغيبا للمبشرين في علو الرتب إلى التكامل كما كانت آية الدعوة تنبيها للمعرضين ليعودوا إلى الإقبال ، وخصوص الإنزال إنما هو في الإنباء بغيب الكون من ملكوته وغائب أيام الله الماضية ومنتظر أيام الله الآتية ، فذلك الذي يخص المهتدين بنور العقل ليترقوا من حد الإيمان إلى رتبة اليقين ، وإنما يرد التنبيه والتنزيل بما في نور العقل هدايته من أجل المعرضين ؛ فكان ما شمله التنزيل بذلك أربعة أمور : أحدها التنبيه على الآيات بمقتضى ، والثاني التنبيه على غائب المنتظر الذي الخلق صائرون إليه ترغيبا وترهيبا ، والثالث الإعلام بماضي أمر الله جمعا للهمم للجد والانكماش في عبادة الله ، والرابع التبصير ببواطن كائن الوقت الذي في ظاهره إعلامه ؛ فكان أول التنزيل في هذه السورة أمر أول يوم من ذكر الله وهو كتب مقتضى العلم والقدرة في قسمه تعالى عباده بين مؤمن وكافر ومنافق ، ثم أنزل الخطاب إلى آية الدعوة من وراء حجاب الستر بسابق التقدير فعم به الناس ونبههم [ ص: 232 ] على آيات ربوبيته وحيا أوحاه الله منه إليه ، ثم عطف على ذلك إعلاما لابتداء المفاوضة في خلق آدم عطفا على ذلك الذي يعطيه إفهام هذا الإفصاح ، فلذلك قال تعالى : " وإذ " فإن الواو حرف يجمع ما بعده مع شيء قبله إفصاحا في اللفظ أو إفهاما في المعنى ، وإنما يقع ذلك لمن يعلو خطابه ولا يرتاب في إبلاغه . وإذ اسم مبهم لما مضى من الأمر والوقت ، " قال " من القول وهو إبداء صور الكلم نظما بمنزلة ائتلاف الصور المحسوسة جمعا ، فالقول مشهود القلب بواسطة الأذن ، كما أن المحسوس مشهود القلب بواسطة العين وغيره . أسماء الله من اسمه الملك إلى اسمه الرحمن الرحيم إلى اسمه رب العالمين إلى اسمه العظيم الذي هو الله
ثم قال : لما أنبأ الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بما في الذكر من التقدير الذي هو خبء الشرعة ونظم به ما أنزل من دعوة الخلق إلى حكمه فانتظم ذلك رتبتي أمر نظم تعالى بذلك إنزال ذكر خلق معطوفا على ذكر خلق أعلى رتبة منه ، نسبته منه كنسبة الدعوة من خبئها ، فذكر آدم ظاهر خبء ما عطف عليه وهو والله أعلم ذكر خلق خلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو خبء خلق آدم ، فكأنه تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر خلقه له بدء وحي سر ثم أعلن بما عطف عليه [ ص: 233 ] من ذكر خلق آدم وحي علن ليكون أمر خلق محمد صلى الله عليه وسلم عند الخاصة فهما كما كان أمر خلق آدم عند العامة إفصاحا ؛ وكان المفهوم : اذكر يا محمد إذ كان في خلقك كذا وإذ قال ربك أي المحسن إليك برحمة العباد بك الذي خبأك في إظهار خلق آدم للملائكة ما أنزل ، وتأويل الملائكة عند أهل العربية أنه جمع ملاك مقلوب من مألك من الألك وهي الرسالة ، فتكون الميم زائدة ويكون وزنه معافلة ، ويكون الملك من الملك وهو إحكام ما منه التصوير ، من ملكت [ ص: 234 ] العجين ، وجمعه أملاك ، تكون فيه الميم أصلية ، فليكن اسم ملائكة جامعا للمعنيين منحوتا من الأصلين ، فكثيرا ما يوجد ذلك في أسماء الذوات الجامعة كلفظ إنسان بما ظهر فيه من أنه من الأنس والنسيان معا ، وهو وضع للكلم على مقصد أفصح وأعلى مما يخص به اللفظ معنى واحدا ، فللكلام رتبتان : رتبة عامة ورتبة خاصة أفصح وأعلى كلما وكلاما .
قال : وفيه - أي هذا الخطاب - مع ذلك استخلاص لبواطن أهل الفطانة من أن تعلق بواطنهم بأحد من دونه حين أبدى لهم انفراده بإظهارهم خلقا دون ملائكته الأكرمين ، حتى لا تعلق قلوبهم بغيره من أهل الاصطفاء فكيف بمن يكون في محل البعد والإقصاء ! توطئة لقبيح ما يقع من بعضهم من اتباع خطوات الشيطان ؛ وذلك لأن في كل آية معنى تنتظم به بما قبلها ومعنى تتهيأ به للانتظام بما بعدها ؛ وبذلك [ ص: 235 ] كان انتظام الآي داخلا في معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
" إني " إن حرف يفهم توكيدا من ذات نفس المؤكد وعلمه ، والياء اسم علي يخص المضيف إلى نفسه الذي يضيف الأشياء إليه ، جاعل في الأرض ولما كانت خلافة آدم عليه السلام كاملة في جميع الأرض بنفسه وبذريته وحد لذلك مع أنه يصح أن يراد به الجنس فقال : خليفة الخليفة ذات قائم بما يقوم به المستخلف على حسب رتبة ذلك الخليفة منه ، فهو خليفة الله في كونه ملكه وملكوته ، وهم أيضا بعضهم خلفاء بعض ؛ فهو خليفة بالمعنيين . انتهى .
وجعل سبحانه هذا التذكير في سياق داع إلى عبادته وقائد إلى محبته حيث مت إلى هذا النوع الآدمي بنعمه عليهم وإحسانه إليهم قبل [ ص: 236 ] إيجادهم ، فذكر لهم ما حاج به ملائكته عنهم ، وما شرف به أباهم آدم من العلم وأمر الملائكة المقربين بالسجود له ، ثم ما وقع لإبليس معه وهما عبدان من عبيده فتاب عليه ولم يتب على إبليس مع سبقه له بالعبادة بل أوجب طرده وأبد بعده فقال تعالى حكاية عن الملائكة جوابا لسؤال من كأنه قال ما قالوا حين أخبرهم سبحانه بذلك : " قالوا " طالبين الإيقان على الحكمة في إيجاد من يقع منه شر أتجعل فيها أي في الأرض من يفسد فيها أي بأنواع المعاصي بالقوة الشهوانية ، ويسفك [ ص: 237 ] من السفك ، قال : وهو سكب بسطوة الحرالي الدماء أي بغير حقها بالقوة الغضبية ، لعدم عصمتهم ، وخلقهم جوفا لا يتمالكون ، وأصحاب شهوات عليها يتهالكون ؛ وكأنهم لما رأوا صورة آدم تفرسوا فيها ذلك لو سألوا عن منافع أعضائه وما أودع فيها من القوى والمعاني أخبرهم تعالى بما تفرسوا منه ذلك والدم قال : رزق البدن الأقرب إليه المحوط فيه " ونحن " أي والحال إنا نحن ، وهذا الضمير [ ص: 238 ] كما قال الحرالي : اسم القائل المستتبع لمن هو في طوع أمره لا يخالفه الحرالي نسبح أي نوقع التسبيح أي التنزيه لك والإبعاد عما لا يليق بك ملتبسين في التسبيح بحمدك والحاصل إنا نبرئك عن صفات النقص حال إثباتنا لك صفات الكمال ، وحذف المفعول للتعميم ؛ وقال : التسبيح تنزيه الحق تعالى عن بادية نقص في خلق أو رتبة ، وحمد الله استواء أمره علوا وسفلا ومحو الذم عنه والنقص منه ، وذلك تسبيح أيضا في علو أمر الله ، فما سبح بالحمد إلا أهل الحمد من الحرالي آدم ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فغاية المسبح الحمد ، والحمد تسبيح لمن غايته وراء ذلك الاستواء . انتهى .
ونقدس أي نطهر كل شيء نقدر عليه من نفوسنا وغيرها ، [ ص: 239 ] " لك " أي لا لغيرك لعصمتنا بك ، أو المعنى نوقع التقديس أي التطهير لك بمعنى أنك في الغاية من الطهارة والعلو في كل صفة . قال : القدس طهارة دائمة لا يلحقها نجس ظاهر ولا رجس باطن ، واللام تعلة للشيء لأجله كان ما أضيف به . انتهى . الحرالي
ولما تضمن تفرسهم هذا نسبتهم أنفسهم إلى العلم المثمر للإحسان ، ونسبة الخليفة إلى الجهل المنتج للإساءة أعلمنا سبحانه لنشكره أنه حاج ملائكته عنا ، فبين لهم أن الأمر على خلاف ما ظنوا بقوله استئنافا : قال إني أعلم أي من ذلك وغيره ما لا تعلمون وقال : وأعلم تعالى بما أجرى عليه خلقه من القضاء بما ظهر والحكم على الآتي بما مضى حيث أنبأ عن ملائكته بأنهم قضوا على الخليفة في الأرض بحال من تقدمهم في الأرض من الجبلة الأولين من الجن الذين أبقى منهم عزازيل وغيرهم ليتحقق أن أمر الله جديد وأنه كل يوم هو في شأن لا يقضي على آتي وقت بحكم ما فيه ولا بما مضى قبله . انتهى . والأظهر [ ص: 240 ] ما ذكرته أنهم إنما قالوا ذلك تفرسا بحكم ما ظهر لهم من صورته ونحو ذلك من إعلامهم بأنه يجمع فيه بين الشهوة والعقل ، ومن المعلوم أن الشهوة حاملة على الفساد ؛ وعلم سبحانه ما خفي عنه من أنه يوفق من أراد منهم للعمل بمقتضى العقل مع قيام منازع الشهوة والهوى ، فيأتي غاية الكمال التي هي فوق درجة العامل بمقتضى العقل من غير منازع له فيظهر تمام القدرة والله أعلم . الحرالي