ولما ثبت في الجاثية مضمون قوله تعالى في الدخان: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين بما ذكر فيهما من [الآيات و] المنافع والحكم، أثبت [هنا] مضمون [ما بعد] ذلك بزيادة الأجل فقال دالا على عزته وحكمته: ما خلقنا أي: على ما لنا من العظمة الموجبة للتفرد بالكبرياء السماوات والأرض على ما فيهما من الآيات التي فصل بعضها في الجاثية. ولما كان من المقاصد هنا الرد على المجوس وغيرهم ممن ثبت خلقا لغير الله قال: وما بينهما أي: من الهواء المشحون بالمنافع وكل خير وكل شر من أفعال العباد وغيرهم، وقال في تفسيره: جميع الوجود أوله وآخره نسخة [ ص: 121 ] لأم الكتاب والسماوات والأرض إشارة إلى بعض الوجود، وبعضه يعطي من الدلالة على المطلوب ما يعطيه الكل بوجه ما، غير أن ما علا أصح دلالة وأقرب شهادة وأبين إشارة، وما صغر من الموجودات دلالته مجملة يحتاج المستعرض فيه إلى التثبت وتدقيق النظر والبحث. انتهى. ابن برجان
إلا بالحق أي: الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرف المطلق، فخلق [الباطل] بالحق؛ لأنه تصرف في ملكه الذي لا شائبة لغيره فيه للابتلاء والاختبار للمجازاة بالعدل والمن بالفضل إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها سواه، وفي خلق ذلك على هذا الوجه أعظم دلالة على وجود الحق سبحانه، وأنه واحد لا شريك له، ودل على قهره بقوله: وأجل مسمى أي: لبعث الناس إلى دار القرار لفصل أهل الجنة من أهل النار، وفناء الخافقين وما نشأ عنهما من الليل والنهار.
ولما كان التقدير: وأمرنا الناس بالعمل في ذلك الأجل بطاعتنا ووعدناهم عليها جنان النعيم، فالذين آمنوا على ما أنذروا مقبلون، ومن غوائله مشفقون، فهم بطاعتنا عاملون، عطف عليه من السياق له من قوله: والذين كفروا أي: ستروا من أعلام الدلائل ما لو خلوا أنفسهم وما فطرناها عليه لعلموه فهم لذلك عما أنذروا [ ص: 122 ] ممن هم عارفون بأن إنذاره لا يتخلف معرضون ومن غوائله آمنون، فهم بما يغضبنا فاعلون، شهدت عندهم شواهد الوجود فما سمعوا لها ولا أصغوا إليها وأنذرتهم الرسل والكتب من عند الله فأعرضوا عنها واشمأزوا منها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى: لما قدم ذكر الكتاب وعظيم الرحمة به وجليل بيانه، وأردف ذلك بما تضمنته سورة الشريعة من توبيخ من كذب به وقطع تعلقهم وأنه سبحانه قد نصب من دلائل السماوات والأرض [إلى] ما ذكر في صدر السورة ما كل قسم منها كاف في الدلالة وقائم بالحجة، ومع ذلك فلم يجر عليهم التمادي على ضلالهم والانهماك في سوء حالهم وسيئ محالهم، أردفت بسورة الأحقاف تسجيلا بسوء مرتكبهم وإعلاما بأليم منقلبهم فقال تعالى: ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ولو اعتبروا بعظيم ارتباط ذلك الحق وإحكامه وإتقانه لعلموا أنه لم يوجد عبثا، ولكنهم عموا عن الآيات وتنكبوا عن انتهاج الدلالات والذين كفروا عما أنذروا معرضون ثم أخذ [ ص: 123 ] سبحانه وتعالى في تعنيفهم وتقريعهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع فقال: أفرأيتم ما تدعون من دون الله إلى قوله: وكانوا بعبادتهم كافرين ثم ذكر عنادهم عن سماع الآيات فقال: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات الآيات. ثم التحم الكلام وتناسج إلى آخر السورة. انتهى.