ولما علم بذلك أن الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها، سبب عنه أمر أعظم الخلق وأشرفهم وأرقاهم وأجملهم صلى الله عليه وسلم تكوينا ليكون لغيره تكليفا فقال تعالى: فاعلم أنه أي: الشأن الأعظم الذي لا إله إلا الله أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما تكون عالما إذا كان نافعا [وإنما يكون نافعا ] إذا كان مع الإذعان والعمل بما يقتضيه وإلا فهو جهل صرف، [و] هذا العلم يفيد أنه لا بد من قيام الساعة لأن الإله وعد بذلك وهو متصف [ ص: 231 ] بالكمال ولا شريك له يمنعه من إنجاز وعده. قال القشيري: والعبد يعلم أولا ربه بدليل وبحجة فعلمه بنفسه ضروري وهذا هو أصل الأصول، وعليه بني كل علم استدلالي، ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وكثرة الحجج، وتناقص علمه بنفسه بغلبات ذكره لله بقلبه، فإذا انتهى إلى حال المشاهدة واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضروريا ويقل إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال وكأنه غافل عن نفسه أو ناس لنفسه، ويقال: الذي رأى البحر غلب عليه ما يأخذه في الرؤية للبحر عن ذكر نفسه فإذا ركب البحر قوي هذا الحال، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك، ولهذه الكلمة من الأسرار ما يملأ الأقطار منها أنها بكلماتها الأربع مركبة من ثلاثة أحرف إشارة إلى الوتر الذي هو الله سبحانه وتعالى والشفع الذي هو الخلق أنشأه تعالى أزواجا، [و] منها حرف لساني وحرفان حلقيان: الهاء والألف، غير أن الألف عبر عنها بمظهرها وهو الهمزة ظاهرا مرتين وخفيا في أداة التعريف في الابتداء مرة، وذكرت [ ص: 232 ] بلفظها أربع مرات، فتلك سبع هي أتم العدد لذلك وبنى الخلق عليه، فالسماوات سبع، والأراضي كذلك سبع؛ إشارة إلى [أن] الإله الحق الذي هو غيب محض إنما علم بالتنزيل بأفعاله، فهي وصلة إلى معرفته وهي منقسمة إلى علوي وسفلي كما أن الألف التي هي كالغيب لأنها لا يمكن النطق بها ابتداء نزلت في مظهر الهمزة التي تكررت في هذه الكلمة مرتين في مقابلة الكونين العلوي والسفلي وبينهما ما لا نعلمه مما خفي عنا كما خفيت همزة الوصل.
وعبر في الأمر بهذه الكلمة بالعلم إعلاما بأن عمل القلب بها هو العمدة العظمى لكن لما كانت حروفها حلقيا ولسانيا كان في ذلك إشارة إلى أنه لا يكفي في أمرها إلا إذعان الباطن ومطابقة الظاهر الذي هو اللسان، فهو ترجمان القلب، ومتى لم يطابق اللسان القلب حيث لا مانع كان صاحبه من أهل آية الصافات وأحرفها اللفظية أربعة عشر حرفا على عدد السماوات والأرض الدالة على الذات الأقدس الذي هو غيب محض والمقصود منها مسمى الجلالة الذي هو الإله الحق سبحانه وتعالى والجلالة الدالة عليه خمسة أحرف على عدة دعائم الإسلام الخمس: ووتريته دلالة على التوحيد، ولم يجعل فيها شيئا شفهيا لتمكن ملازمتها لكونها أعظم مقرب إلى الله وأقرب موصل [ ص: 233 ] إليه مع الإخلاص، فإن الذاكر بها يقدر على المواظبة عليها ولا يعلم جليسه بذلك أصلا، لأن غيرك لا يعلم ما [في] وراء شفتيك إلا بإعلامك، وكما دل الكلام على التوحيد بهذه الكلمة صريحا دل على كلمة الرسالة التي لا ينفع التوحيد إلا بها تلويحا بتسمية السورة "سورة محمد"، فهي القتال لأنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يصرحوا بما صرحت به السورة من كلمة التوحيد، وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن وبين الكلمتين مزيد اتفاق يدل على تمام الاتحاد والاعتناق؛ وذلك أن أحرف كل منهما إن نظرنا إليها خطا كانت اثني عشرة حرفا على عدد أجزاء السنة يكفر كل حرف منها شهرا، وإن نظرنا إليها نطقا كانت أربعة عشر حرفا لملأ الخافقين نورا وعظمة ومهابة وجلالة واحتشاما، وإن نظرنا إليها بالنظرين معا كانت خمسة عشر لا يوقفها عن ذي العرش خالق الكونين موقف، وهو سر غريب دال على الحكم الشرعي الذي هو عدم انفكاك إحداهما عن الأخرى، فمن لم يجمعهما اعتقاده لم يقبل [ ص: 234 ] إيمانه، وقدمت هذه السورة [في هذا] سابقة لأن لها السبق، وذكرت الأخرى في الفتح تالية، وسميت سورة هذه بالقتال وسورة الكلمة المحمدية بالفتح إشارة إلى أنه ما قاتل أحد عليهما مع الإخلاص إلا فتح عليه ولا يقدر أحد على مخالفته مع مناصبته إلا نفاقا على وجه الذل والاضطراب. التوحيد لا ينفع بدون الشهادة له بالرسالة،
ولما كان حصول التوحيد الذي هو كمال النفس موجبا للإجابة كما في حديث رضي الله تعالى عنه عند أبي هريرة الترمذي وأبي يعلى: الحديث. قال معلما أنه يجب على الإنسان بعد تكميل نفسه السعي في تكميل غيره ليحصل التعاون على ما خلق العباد له، «ما من مؤمن يدعو الله بدعوة إلا استجيب له ما لم يكن إثما أو قطيعة رحم» واستغفر أي اطلب الغفران من الله بعد العلم بأنه لا كفوء له بالدعاء له وبالاجتهاد في الأعمال الصالحة لذنبك وهو كل مقام [عال] ارتفعت عنه إلى أعلى منه، وأوجده أنت من نفسك من أساء إليك لتكثر أتباعك، فإن الاستقامة مهيئة للإمامة.
[ ص: 235 ] ولما كان تكميل النفس مرقيا إلى تكميل الغير ليكون له مثل أجره، قال تعالى مبينا لهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة معيدا للجار معبرا بالإيمان والوصف إيذانا بأن أعلى الأمة محتاج إلى ذلك؛ لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره، وهذا مشرفا لهذه الأمة حيث أمر الشفيع المجاب الدعوة بالاستغفار لهم [وهو] بالدعاء والحث على الاجتهاد في الأعمال الصالحة، حاذفا المضاف إشارة إلى الاحتياج إلى المغفرة في كل حال لما للإنسان من النقصان بالخطأ والنسيان: وللمؤمنين والمؤمنات أي: الراسخين في الإيمان؛ لأنهم أحق الناس بذلك منك؛ لأن ما عملوا من خير كان لك مثل أجره، ولا يخلو أحد منهم من تقصير في المعارف الإلهية والعمل بموجبها أو هفوة.
ولما كان معرفة من يذنب ومن لا يذنب متوقفة على إحاطة العلم، قال عاطفا على ما تقديره: فالله يعلم حركاتكم وسكناتكم سرا وجهرا ويعلم أنكم لا بد أن تعملوا ما جبلكم عليه من ذنب وهو يغفر لمن أراد ممن يسعى في كمال نفسه وتكميل غيره بغسل الذنوب، بالرجوع إلى طاعة علام الغيوب والله المحيط بجميع صفات الكمال يعلم متقلبكم أي: تقلبكم ومكانه وزمانه ومثواكم أي: موضع [ ص: 236 ] سكونكم وقراره للراحة وكل ما يقع فيه من الثواء في وقته - في الدنيا والآخرة من حين كونكم نطفا إلى ما لا آخر له.