لما كانت تلك سورة الجهاد وكانت هذه سورة الفتح بشارة [ ص: 274 ] للمجاهدين من أهل هذا الدين بالفوز والنصر والظفر على كل من كفر، وهذا كما سيأتي من إيلاء سورة النصر لسورة الكافرون، فأخبرت القتال عن الكافرين بإبطال الأعمال والتدمير وإهلاكهم بالقتال، وإفساد جميع الأحوال، وعن الذين آمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالهداية وإصلاح البال، وختمها بالتحريض على مجاهدتهم بعد أن ضمن لمن نصره منهم النصر وتثبيت الأقدام، وهدد من أعرض باستبدال غيره به، وإن ذلك البدل لا يتولى عن العدو ولا ينكل عنه، فكان ذلك محتما لسفول الكفر وعلو الإيمان، وذلك بعينه هو الفتح المبين، [فافتتح هذه بقوله على طريق النتيجة لذلك بقوله مؤكدا إعلاما بأنه لا بد منه وأنه] مما ينبغي أن يؤكد لابتهاج النفوس الفاضلة به، وتكذيب من في قلبه مرض وهم أغلب الناس في ذلك الوقت. إنا أي: بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال فتحنا أي: أوقعنا الفتح المناسب لعظمتنا لكل متعلق بإتقان الأسباب المنتجة له من غير شك، ولذلك عبر عنه بالماضي.
ولما كانت منفعة ذلك له صلى الله عليه وسلم لأن إعلاء كلمة الله يكون به فيعليه ويمتلئ الأرض من أمنه، فلا يعمل منهم أحد حسنة [ ص: 275 ] إلا كان له مثل أجرها ويكونون على قصر زمنهم ثلثي أهل الجنة، فيكون ذلك شرفا له - إلى غير ذلك من الأسرار، التي يعيا دون أيسرها الكفار، قال: لك أي: بصلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة التي نزلت هذه السورة في شأنه، يصحبان في الرجوع منه إلى المدينة المشرفة، قال : الأزهري الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فرأوا ما لا أعدل منه ولا أحسن، فاستولى الإسلام على قلوبهم وتمكن منهم [فأسلم منهم] في ثلاث سنين خلق كثير، وكذا كان من الفتح تقوية أمره صلى الله عليه وسلم بالتصديق فيما أنزل عليه من سورة من غلبهم على أهل لم يكن فتح أعظم من صلح فارس في رواية من قال: إنه كان في زمن الحديبية، ثم زاده تأكيدا بقوله: فتحا وزاد في إعظامه بقوله: مبينا أي: لا لبس فيه على أحد، بل يعلم كل ذي عقل به أنك ظاهر على جميع أهل الأرض لأنك كنت وحدك، وكان عند أهل الكفر أنك في أيديهم، وأن أمرك لا يعدو فمك، فتبعك ناس ضعفاء فعذبوهم وكانوا معهم في أسوأ الأحوال، وتقرر ذلك في أذهانهم مددا طوالا ثلاث عشرة سنة، ثم أنقذ الله أتباعك منهم بالهجرة إلى رحمه الله تعالى أولا، وإلى [ ص: 276 ] النجاشي المدينة الشريفة ثانيا، وهم مطمئنون بأنك أنت - وأنت رأسهم - لا ينتظم لهم بدونك أمر، ولا يحصل لكسرهم ما لم تكن معهم جبر ، بأنك في قبضتهم لا خلاص لك أبدا منهم ولا انفكاك من بلدتهم، فاستخرجك الله من عندهم بعد أن حماك على خلاف القياس وأنت بينهم من أن يقتلوك، مع اجتهادهم في ذلك واستفراغهم قواهم في أذاك، ثم بذلوا جهدهم في منعك من الهجرة فما قدروا، ثم [في] ردك فما أطاقوا ولا فازوا ولا ظفروا.
بل غلبوا وقهروا، ثم أيدك بأنصار أبرار أخيار فكنتم على قلتكم كالليوث الكواسر والبحار الزواخر، ما ملتم على جهة إلا غمرتموها، وفزتم بالنصف من أربابها قتلتموها أو أسرتموها ولم تزالوا تزدادون وتقوون، وهم ينقصون ويضعفون، حتى أتيتموهم في بلادهم التي هم قاطعون بأنهم ملوكها، يتعذر على غيرهم غلبهم عليها بل سلوكها، فما دافعوكم عن دخول عليهم إلا بالراح، وسألوكم في وضع الحرب للدعة والإصلاح، فقد ظهرت أعلام الفتح أتم ظهور، وعلم أرباب القلوب أنه لا بد أن تكون في امتطائكم الذرى وسموكم إلى رتب المعالي [ ص: 277 ] وأي أمور، وروى [عن] الإمام أحمد مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه قال: الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفنا منها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم: ما بال الناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجنا نوجف، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفا على راحلته [عند كراع] الغميم، فلما اجتمع عليه الناس قرأ: إنا فتحنا لك فتحا مبينا فقال رضي الله عنه: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده». عمر "شهدنا
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات - وقد يغمض بعضها - منها أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب الآية. وأشعروا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله: إن تنصروا الله ينصركم استدعى ذلك تشوف النفوس إلى حالة العاقبة فعرفوا ذلك في هذه السورة فقال تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآيات. فعرف تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعظيم صنعه له، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال: هو الذي أنـزل السكينة في قلوب المؤمنين - الآيات. والتحمت إلى التعريف بحال من نكث من مبايعته صلى الله [ ص: 278 ] عليه وسلم، وحكم المخلفين من الأعراب، والحض على الجهاد، وبيان حال ذوي الأعذار، وعظيم نعمته سبحانه على أهل بيعته لقد رضي الله عن المؤمنين وأثابهم الفتح وأخذ المغانم وبشارتهم بفتح مكة: لتدخلن المسجد الحرام إلى ما ذكر سبحانه من عظيم نعمته عليهم وذكرهم في التوراة والإنجيل ما تضمنت هذه السورة الكريمة، ووجه آخر [و] هو أنه لما قال الله تعالى في آخر سورة القتال: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم كان هذا إجمالا في عظيم ما منحهم وجليل ما أعطاهم، فتضمنت سورة محمد تفسير هذا الإجمال وبسطه، وهذا يستدعي من بسط الكلام ما لم تعتمده في هذا التعليق، وهو بعد مفهوم مما سبق من الإشارات في الوجه الأول، ووجه آخر مما يغمض وهو أن قوله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم إشارة إلى من يدخل في ملة الإسلام من الفرس وغيرهم عند تولي العرب ، وقد أشار أيضا إلى هذا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه الآيات. وأشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا»، وعقد السبابة بالإبهام، أشار عليه الصلاة والسلام [ ص: 279 ] إلى تولي العرب واستيلاء غيرهم الواقع في الآيتين، وإنما أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: "اليوم" إلى التقديم والتأخير، وفرغ هذا الأمر إلى أيام ، فغلبت أبي جعفر المنصور الفرس والأكراد وأهل الصين وصين الصين -وهو ما يلي يأجوج ومأجوج- وكان فتحا وعزا وظهورا لكلمة الإسلام، وغلب هؤلاء في الخطط والتدبير الإماري وسادوا غيرهم، ولهذا جعل صلى الله عليه وسلم مجيئهم فتحا فقال: «فتح اليوم». ولو أراد غير هذا لم يعبر ب: "فتح"، ألا ترى قول عمر رضي الله عنهما في حديث الفتن حين قال له: "إن بينك وبينها بابا مغلقا" فقال لحذيفة : أيفتح ذلك الباب أم يكسر؟ فقال: بل يكسر. ففرق بين الفتح والكسر، وإنما أشار إلى قتل عمر رضي الله عنه، ولذا قال عليه الصلاة والسلام "فتح" وقال: عمر يأجوج ومأجوج" وأراد من نحوهم وجهتهم وأقاليمهم؛ لأن "من ردم الفرس ومن أتى معهم هم أهل الجهات التي تلي الردم، فعلى هذا يكون قوله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم [ ص: 280 ] إشارة إلى غلبة من ذكرنا وانتشارهم في الولايات والخطط الدينية والمناصب العلمية. ولما كان هذا من قبل أن يوضح أمره يوهم نقصا وخطأ، بين أنه تجديد فتح وإعزاز منه تعالى لكلمة الإسلام فقال تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا الآيات. ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في تلخيص التلخيص علماء المالكية مشيرا إلى تفاوت درجاتهم ثم قال: وأمضاهم في النظر عزيمة وأقواهم فيه شكيمة أهل خراسان: العجم أنسابا وبلدانا، العرب عقائد وإيمانا، الذين ينجز فيهم وعد الصادق المصدوق، وملكهم الله مقاليد التحقيق حين أعرضت العرب عن العلوم وتولت عنها، وأقبلت على الدنيا واستوثقت منها، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم فأشار عليه الصلاة والسلام إلى وقال: «لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء». سلمان انتهى.
قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من هؤلاء الذين قال الله: